يُورد المؤلف قولا شائعا على ألسنة العوام:
(الخليفة يستمدُّ سلطته من الله)
ينقضُ الشيخُ علي عبد الرازق القولَ السالف، الذي يسرى على ألسنة العامة، ويؤكد بُطلانه، لأنه شعارٌ مُضلِّل، وهو سبَّب تأخر المسلمين عن ركب الحضارة، وهو يُدلل على صحة ما ذهب إليه بالأقوال التالية:
" الخليفة يستمد سلطانه من الأمة، فهي مصدر قوته، فالأمةُ هي التي تختاره لهذا المقام، فإذا مات الموكَّل، أو خُلِعَ، ينعزلُ الوكيلُ أو الخليفةُ.
وإذا بطُلتْ أهليةُ الوكالة، ينعزل الوكيل، حتى أن القاضي لا يعمل بولاية الخليفة، بل بولاية المسلمين"
أما عن طاعة الإمام والخليفة ، فيذهب المؤلف إلى دحض النظرية الشائعة، وهي وجوب طاعة الخليفة، (لأن طاعتَهُ أمرٌ من النبي ومن الله) فهو يورد شواهدَ كثيرةً، تُدلِّلُ على زيف هذا الادعاء، فهو يقول:
"وإذا كان النبيُ أمرنا أن نُطيع إماما بايعناه، فقد أمرنا الله تعالى أن نَفِيَ بعهدنا لمشركٍ عاهدناه، وأن نستقيمَ له، ما استقام لنا، وهذا ليس دليلا على أن الله قد رضيَ الشركَ، أو لسنا مأمورين شرعا أن نُطيع البُغاةَ العاصين إذا تغلَّبوا علينا، وكان في مخالفتهم فتنةٌ تُخشى، من غير أن يكون ذلك مستلزما لمشروعية البغي، ولا لجواز الخروج على الحكومة؟!!!"
ويستطرد المؤلف في إيراد الأمثلة على صحة ما ذهب إليه، وهو أن الطاعة للإمام والخليفة ليست واجبا شرعيا من الرسول ومن الله، فالوالي، أي الإمام، أو الخليفة، ليس سوى بشرٍ مُوكَّلٍ بعقدٍ مع الأمة، يجوز خلعه إذا أخلَّ بشروط العقد، فيقول:
"لقد حدَّثنا الله عن الرِّقِ، وأمرنا أن نفكَّ رقابَ الأرقَّاء، ونعاملهم بالحُسنى، وهذا لا يدلُّ على أن الرِّقَ مأمورٌ به في الدين، ولا على أنه مرغوبٌ فيه."
يستمرَّ الشيخ علي عبد الرازق في إثبات عقيدته في (الخلافة) وتجريدها من هالة القدسية، ووضعها في قالب سياسي بحت، الهدفُ منه هو تطويع المحكومين لسلطان الحاكم، وتبرير القهر والظلم والطغيان، بنحت مبرراتٍ دينية، تكفل استمرار الحكم للطغاة والحكام، ويستشهد بأحداث التاريخ، فهو يقول:
" وما المُلك إلا التغَلُّبُ، والحكم بالقهر. أطاح، كمال أتتاورك بالخلافة العثمانية 1924 ، كانت قوة الخلافة مستمدة من القوة المادية المُسلحة، فقد شاد الخلفاءُ مقامهم على أساس القوة المادية، وبنوه على قواعد الغَلبَة والقهر، كما أن عليا ومعاوية تبوءا الخلافة تحت ظلال السيف، وعلى أسنَّة الرمح، وكذلك الخلفاءُ من بعد، إلى يومنا هذا!
وما كان لأمير المؤمنين، محمد الخامس ، سلطان تركيا أن يسكن اليومَ قصر (يلدز) لولا تلك الجيوش ، التي تحرسُ قصره، وتحمي عرشه. فالعروش لا ترتفع إلا على رؤوس البشر، ولا تستقرُّ إلا فوق أعناقهم"
ظلَّ المؤلف مواظبا على استعمال الشواهد التاريخية التي تؤيد نظريته في أن الخلافة ليست مقدسة، وإنما هي عقدٌ بين الرعية وبين الراعي، ولا يمكن أن يُحوِّلَ العقدُ الإمامَ والخليفةَ إلى مفوضٍ إلهي، يتصرف بتفويض من الله، ويحقُّ له أن يُقرِّر ما يشاء، وقتما يشاء، فالمؤلف يواصل توظيفه لأحداث التاريخ وشواهده، لتدعيم نظريته، وعقيدته الراسخة في (بشرية الإمام والخليفة، والوالي) فهو يقول أيضا:
"لم يخلُ تاريخُ الخلفاء، من أبي بكر من خارجين على الخلافة، فمعارضتُهم للخلافة جاءتْ منذ نشأة الخلافة نفسها، فهناك الخوارج على علي، والباطنية، فالأصل في الخلافة أنها ترجع إلى أهل العقد والحل، فالإمامةُ عقدٌ يحصُلُ بالمبايعة من أهل الحل والعقد."
يستدرك الكاتب، فتراتٍ من التاريخ، لم تظهر فيها سطوة القوة التي فرضتْ الولاةَ والخلفاء، وهذا الفترات القليلة الشاذة ليست هي المقياس، لأن عدم بروز القوة والسطوة في تعيين الخلفاء والولاة لا تعني أنها غير موجودة، ولكنها ليست ظاهرة للعوام، وهي ليست شذوذا، فقد تمرُّ أوقاتٌ تنسى فيها الرعيةُ سطوة القوة في تعيين الخليفة والوالي، وقد تمرُّ أزمانٌ على هذا النسيان، وهذه غفلةٌ لا تنفي الحقيقة، وهي أنَّ القوة والسطوة والسلاحُ هي الرافعة الرئيسة لتعيين الولاة والخلفاء، ويستشهد بأقوال مَن سبقوه من المفكرين كابن خلدون والفلاسفة كأرسطو، والحكامُ والأباطرة،ككسرى أنو شروان، فهو يقول:
"يُلاحظُ في بعض سني التاريخ أن تلك القوة المسلحة، والتي هي دعامة الخلافة لا تكون ظاهرة الوجود محسوسة للعامة، فلا تحسبنَّ ذلك شذوذا، عما قررنا، فإن القوة موجودة، يرتكز عليها مقامُ الخليفة، وقد يمرُّ زمنٌ لا تُستعمل فيه تلك القوة، لعدم الحاجة إلى استعمالها، فإذا طال اختفاؤها عن الناس، غفلوا عنها، وربما حسب بعضُهم أنها لم تكن موجودة، ولو كانت غير موجودة لما كان للخليفة بعدها وجودٌ.
- وما المُلكُ إلا التغلبُ بالحكم والقهر،قال ابن خلدون، وقال كسرى أنو شروان: (المُلك بالجند) وقال أرسطو:
المُلك نظامٌ يُعضِّدُه الجندُ"
يضيف المؤلفُ إلى مجموع الأقوال السابقةِ قولا جديدا لتأكيد نظريته المتمثلة في نزع القداسة الإلهية على تاج الخليفة والوالي والإمام، فهو يقول:
"المُلك منصبٌ شريفٌ ملذوذ، لذا يقعُ فيه التنافسُ غالبا، وقلَّ أن يُسلِّمه أحدٌ لصاحبه، إذا غلبَ عليه"
يتبـع