الكاتب الصحفي: توفيق أبو شومر - فلسطين - خاص بـ " وكالة أخبار المرأة "
من الصعب أن أتذكر كيف بجنون أوقفت سيارتي بعد أن عبرت عنك، ثم رجعت ركضا لأتلقفك بين راحتيّ.. كان لا بد أن أعود، فسربُ الطيور الذي كان يحطّ فوقك، ثم يعلو وأنت ملقى على الطريق كانت إشارة إلى شيء ما.
أذهلني بأصوات يصدرها.. لفتني، وجرجرني وأنا الذي كنت مشدودا للطريق متمسكا بعجلة القيادة في بلد أنا فيه مستجد في كل شيء.. اللغة.. التواجد الإنساني، فكيف وأنا أقود سيارة مقودها علي اليمين؟!
الأصوات التي سمعتها كانت لسرب طيور، أظنها كانت ذات لون أسود.. كانت تستصرخني للعودة لملاحظة شيء ما يحصل هناك..
رأيتك.. نعم- رغم تركيزي في السواقة- طائرا صغيرا ضعيفا على كتف الطريق.. من الواضح أن سيارة صدمتك وأسرعت دون اكتراث، ولكن أصدقاءك الذين لم يتخلوا عنك كانوا يهبطون، ويطيرون مصدرين تغريدا يوحي بسمفونية تعزف للحداد..
ما الذي دفعني إلى العودة ركضا لأحملك بين راحتي وأتأملك.. لم أكن أثق أنك حي، لكني حزنت كثيرا أن تبقى هكذا تداس كما يداس أطفال بلادي، وعندما صرت بين راحتي وتحسستك أدركت من نبضك أنك.. حي.. حي!
فهمت حينذاك ما معنى أن تهبط الطيور عليك، وتصدر تلك الأصوات التي كأنها تلفت إليك النظر لعل هناك من يستطيع إنقاذك في الرمق الأخير.. تذكرت أطفال بلادي وهم منتهكون على قارعة الطريق في المدن السورية المهدمة، وتذكرت طفلا لاحقه رشاش القناص ليصطاده مستمتعا بمشهده وهو يهوي مضرجا بدمائه..
كنت أنت هناك، وكنت أنا العاجز أمام شاشات الأقنية الفضائية منذ أكثر من خمس سنوات.. عاجز عن حماية ذلك الطفل السوري من رشاش القناص العابث بطفولته، ومن الجزار الذي هوى على حمزة الخطيب يقتل فيه رجولة تلوح بواكيرها.. عاجز عن حماية أحمد الخولي، وهو يغتصب من مراهق لبناني في بلد من حسبهم جيرانا حين لجأ إليهم، ثم يطعن، ويرمى بلا ضمير على صندوق كارتون وسط الطريق حيث توضع أغراض يراد التخلص منها.. عاجز عن حماية طفلة تهرب بعينيها من الكاميرا التي تصورها.. عاجز عن انتشال الخوف من صدر طفلة أمام رجل بلباس الشرطة، وهي تكدس مشاهد القتل والموت في ذاكرتها.. عاجز عن إيقاد الضمير في قلوب تجار الجوع في مضايا والغوطة وسائر المدن السورية المحاصرة.. عاجز عن كبح تجار الموت عبر البحار وهم يتاجرون بأمان الأطفال السوريين..عاجز عن احتضان طفل سوري لفظه البحر إلى الشاطئ، وبات أيقونة للموت تتابدلها التماسيح وهي تذرف دموعا من زجاج..
كان لا بد أن أعود لأحمي كبرياءك من دهس سيارة أخرى تمر بجسد ميت غفلت أنه قبل ذلك كان يملأ الكون بتغريده، وإذ بعجزي يتكرس دفعة واحدة، ويصفعني، وأنا أكتشف فيك نبضا ما يزال ينبض بينما جسدك لا يستطيع الحراك..
جُلتُ بعينيّ - أنا الغريب هنا- يا سيد المكان.. غريب في ديارك ملتجئ إليها، وعاجز أن أقوم بشيء يرد إليك الروح.. لم يلتفت إليّ أحد، فالمشهد الذي أسرني، وقادني إليك لا يلفت إلا من كان مثلي آتيا من وطن دمرته الحرب، وتكاثرت عليه الأيدي بالخراب..
لم يسمعوا أصوات الطيور التي كانت تصيح طالبة النجدة لك، وحدي أنا الغريب في ديارك أسمعك وأحتويك، ويضعني العجز دفعة واحدة حقيقيا أمامك، لا أمام شاشات التلفزة، أفكر بم أتصرف؟!..
كان لا بد أن أتخذ قرارا سريعا بتركك على طرف الجدار تموت مكرما في ظلال أشجار وأزهار كنت مليكها، أو أحملك معي وأنا التي لا تملك لك مكانا ولا دواء..
اقتربت من الحائط، وأرقدتك بعد أن عوّذتك بما أعوذ به ابنتي طفلة وصبية، بما قرأته على أمي وهي على فراش الموت، وبما أعوذ به حفيديّ مفيدا، وعلياء رغم اتساع النأي بيننا، وبما أعوذ به أطفال بلادي التائهين في الأمداء الشاسعة..
هل تصدق أني وجدت نقودا على طرف الحائط حيث أردت وضعك؟!.. قطع نقود فضية، بم يمكنني أن أفسر ذلك، هل هي إشارة ما؟!.. لم أكن أنتظر ثوابا.. ثق أني كنت أشعر بالرأفة وبالسلب وبالقهر معا..
أيها الطائر الجميل أحزن عليك وأعتذر منك، ولست أملك إلا أن أتركك قريبا من أصدقائك.. أعرف أنهم لن يتخلوا عنك في لحظاتك الأخيرة، وأعرف أكثر أنهم أرفق ممن يقتلون الأطفال في بلدي ويلتقطون الصور لهم ويتداولونها غير مكترثين بحرمة الموت والأموات..
أعرف أنك ستفرد جناحيك بعد أن ترتاح قليلا وستعود تغرد للحرية، وللحب وللجمال وللطفولة، ولي.