الأديبة والكاتبة الصحفية: أمان السيد - سوريا - خاص بـ " وكالة أخبار المرأة "
كثير من السلوكيات يستجدّ في هذا الزمان.. يصفق البعض لها، ويشير آخرون إليها بالاستهجان والرفض، ولكنها في النهاية تعتبر أمرا واقعا لا مفرّ منه.
من ذلك مواقع الزواج والتسجيل فيها.. المواقع التي غدت مرتعا خصبا لكثير من الأفّاقين والمدّعين والعابثين، رغم أنه لا يمكن نفي تواجد الجادّين كما في كل مجال، وأمام هذين المتناقضين يحطّنا الجمّال كما يقال في الأمثال السائدة.
قبل أيّ حديث لا بد من الوقوف على السبب الذي يستجلبُ التسجيل في تلك المواقع، التي أحسبها قد بعثتْ من الرّماد دور الخطّابة التي كانت الملاذ والموئل في تزويج البنات والأبناء في الزمن الذي أعتقد أنه سبق زمن التكنولوجيا، حين كانت الخطّابة تحلّ محلّ محرك البحث اليوم، فتدخل البيوت بلا مواعيد مسبقة، بل، وبشكل مرحب به جدا، فتعرض صور الشباب والشابات بأبهى الإطلالات، كما تعرض مواصفاتهم، وللشاب أن يختار هو، وأهله ما يوافق الهوى، والعادات، والتقاليد، وكذلك الأمر بالنسبة للفتاة في أغلب الأحيان، وبعدها تقام أفراح وليال ملاح يشارك فيها الحي كله.. سلوك لم يكن سُبّة، ولا عارًا في تلك الفترة من حياة من سبقونا.
جاءت التكنولوجيا، وولّى عهد الخطّابة مع ما ولّى من الأعراف والتقاليد التي يأسى كثيرون عليها اليوم، وألغي دورها الجميل في جمع الرؤوس بالحلال، وإراحة الأهل، وطلاب الزواج ممن فاتهم القطار، لتحلّ معها مواقع الزواج التي تتّبع النهج ذاته بكثير من التزويق، وباتساع العرض والطلب..
الحسّاسُ في ذلك إلغاء دور الرقباء، وتحوّل الساحة إلى ميادين أمام الجنسين يجول فيها الطرفان بانفراد ضمن مواصفات يحددانها، لكن كثيرا من الأشياء الثمينة قد فقدت بإلغاء دور الخطّابة، وقد يكون أهمها المصداقية، والشفافية التي أحاطت بتلك المرأة التي كانت تهلّ النفوس لمجيئها إلى البيوت، وتترقب العيون جعبة تحمها بلهفة حين تميط عنها اللثام، فتنطلق الصور زاهية لأشخاص موجودين، لا أشخاص في عوالم افتراضية.. أشخاص يسعون من خلالها بصدق إلى الزواج، وإكمال نصف الدين، لا إلى التسلية والعبث كما يحدث في مواقع الزواج التي باتت تستغل هذا الاسم ليرتع فيها الراتعون كما يحلو لهم من المواعدة إلى اللهو إلى العلاقات المفتوحة، إلى مسميات لأنواع من الزواج غريبة على ثقافتنا دون مراعاة لضمير، ولا لدين، أو خلق، ولا حتى لمشاعر تدفع ببعضهم إلى التسجيل بشكل جديّ في تلك المواقع حين تمنعهم ظروفهم من الالتقاء بالشريك، وما أكثر الظروف التي استجدت في زماننا، وجعلت الناس نهبا لها..
نستطيع أن نقول إنّ مواقع الزواج هذه تجارة لا تختلف عن غيرها حيث تعرض سلعها بشكل مغر مستغلة النساء استغلالا واضحا، رغم أنها تهتم بشكل أو بآخر بلفت النظر إلى الخداع الذي يتوقع من بعض المستغلين، ومرضى النفوس تحت عناوين تحمل تنبيهات إلى أنه قد تنصب الشراك أحيانا، فيرجى الاحتراس، كما أنها تستغل النساء بعرض صورهن أمام طلاب الزواج المفترضين حين تشترط على المرأة الراغبة بالزواج وضع صورتها كي تتمكن من قراءة رسالة أرسلت إليها من متزلّف، أو لنقل من راغب في الزواج، وقسْ على ذلك ما تسهله من خدمات لقاء مبالغ مالية.. وما يدور وراء الكواليس أعظم!
في تلك المواقع ساحات كبيرة للزيف، والإساءة والاستغلال لم تكن لدى الخطّابة المعروفة للجميع، والتي يسبقها عطرها إلى قلوب الأسر وأبنائها وبناتها، والتي اعتبرت يوما من الأواصر التي تؤلف بين القلوب بما تسعى إليه، وقد تكون تلك الساحات أوجدت حقا لإيقاد الفتن والمساهمة في بثّ الخراب الذي يستشري كما يشهد من عاشروها عن كثب، ولكنها بالطبع ساحات تشهد نجاحات عند الكثيرين من الجادين أيضا مما يؤكد أنّ حسن، أو سوء استخدامها هو الأساس.
ومما يستوقف أيضا للحديث، أننا رغم ادعائنا بسبقنا التطور أشواطا إلا أن البعض ما يزال قاصرا في نظرته إلى السلوكيات المستجدة، ومنها هذه المواقع، فهناك استهجان ما يزال يسيطر على من هم أنفسهم يشاركون فيها نحو النسوة اللاتي يتواجدن فيها، ولا سيما حين يكنّ على قدر من القيمة والجمال الذي يفترض في الذهن كثرة المعجبين، والنأي عن المشاركة في هذا الميدان، أمر يدفع أيضا إلى التفكير فيما يدفع أولئك النسوة إلى الزّجّ بأنفسهن في تلك المواقع، فهل تراهنّ يبحثن عن شريك اعتباطيّ، وهل هنّ قاصرات حقا أن يلتقينه في المجتمعات المترامية حولهن، أم أن هناك أسبابا أكثر عمقا تستدرك في العمق؟ّ!
يطول الحديث في هذا الموضوع، ويتشعّب، ويحتاج إلى صفحات وصفحات للإحاطة بجوانبه، لكن لا بد من الإشارة إلى مكوّن هامّ جدا، ألا وهو العزلة التي أصبحت أهم سمات هذا الزمن العجيب، العزلة التي تسحب في عباءتها فقدان الثقة في الآخر، والحذر الشديد من مطبات الوقوع في الوخم والأذى، وغياب المصداقية، والتفكك في المجتمع، التفكك الذي أودى بالروابط، وبالعلاقات بين البشر، وسيطرة الأنا على الفرد سيطرة كلية غيبت أي إدراك، ومشاركة لمعاناة الغير، كما أن هذه الساحات الافتراضية قد تكون فرصة من نوع مبتكر لنسوة ذكيات للتنقيب بحرية، وبترفع عن الشريك المبتغى، وذلك من وراء حجاب يجعل من إحداهن تمد برأسها أحيانا من إحدى ثقوبه لعلها تحظى بمن يمكن أن تسلم إليه حبل الخلاص، أوتنتكص في شرنقتها دون أن تمتهن كرامتها، وبضغطة زر تستطيع أن تلغي كل شيء وتترّبع في هودجها، وكأنّ شيئا لم يكن..
أمر أيضا يفترض أن يقوم به الرجال الأذكياء الذين يعانون من الأمر ذاته، ويحتاجون إلى كثير من الملح لمداواة الجروح.