عطا الله شاهين - فلسطين - " وكالة أخبار المرأة "
دنتْ تلك المرأة من فتاة كانتْ تبكِي، وقالتْ لها، بينما كانتْ تناولها بورقةِ محارمٍ: أذرفي عبراتكِ هنا، لكنّ الفتاة لمْ تفهم ما قالته تلك المرأة، وتابعتْ البكاء، فاقتربتْ تلك المرأة منها مرّة أخرى، وقالتْ لها: عزيزتي لا تضيّعي دموعكِ.. حطّيها هنا.. في هذه الورقة.
فأتتْ والدةُ الفتاة ، وزجرتْ تلك المرأة العجوز، ثم رمتْ بورقِ المحارم في سحنتِها، فرفعته تلك المرأةُ بسرعة، بعدما أمّنتْ أنّ فيه دموع الفتاة، وأخذتْ تفتش، بعدما حظيتْ بالورقِ المبتلّ بدموعِ الفتاة، عن نائحةٍ أخرى، وراحتْ تبحثُ بإصرار، فمرّت على متوسّلة كانت تبكي، وأمعنتْ النّظر في دموعها، ثم غضّتْ الطّرف عنها وتابعتْ البحثَ، وولجتْ إلى داخل مكانٍ للتعبّد، فرأتْ امرأةً تقعد، وتخبئ دموعها، فجلستْ مقابلها، وناولتها ورق محارم جديدة، وقالتْ لها: أذرفي عبراتكِ هنا.
أخذتْ المرأةُ الورقَ، ونظرتْ فيه، ورطّبته بدموع بكائها، وقالتْ :الفتاة.. الفتاة التي أنفقتْ عليها كلّ ما أحوزُ زجرتني.. زجرتني بكلّ عنفٍ كيف تصلّب فؤادها عليّ؟
فوضعتْ تلك المرأةُ يدَها على كتفِ الباكية، وبدتْ محطاتةً لأنْ تخرج المرأةُ المخاطَ في ورقِ المحارم، فيمتزجُ مُخاطها بدمعِها ويخرّب كل شيء.
كانتْ تبحثُ بعزيمة عن دموع خصبة، تجمع دموعاً ذرفتها مُقل وأفئدة محطّمة، مُحترقة، مملوءة عن آخرها بالحزنِ، دموعٌ تتقاسمُ في إحداثها كلّ أعضاء الجسد، العيون، الأفئدة، التي كانتْ تمرّ في كلّ الأوردة، وانهمرت انهمارا عبر جفونِ العيون، وفاضت كطوفانٍ، لتجمعها أخيراً في ورقِ محارمها الكثيرة، التي امتلئ بها عُبّها، وطيات ملابسها. كانت تتفادى الجبّانات، فالدموع التي انسكبت هناك نشفت، بمجرّد ذهاب ذوي الميّتين للمقابر، دموعٌ في معظمها ليستْ حقيقية.
فكنزُها من ورقِ المحارم باتَ لا يُعدّ، هذه القطع المتجمّعة لسيّدات ثكالى، قُتل أولادهن في ميادين الحروب، وفي ميادين ثورات مستعرة، فبقيت دموعهن هنا شاهدة على أحزانهن.
امتلئ بيتُ تلك المرأة، ململمةُ الدموع، بحكاياتٍ مبللة، ولم يعرفْ أحد سريرتها الكبيرة، وأصرّت ألا تطلعُ عليه أحداً، ولم تخطّط البتّة لإفشاء السّرّ، وتورّطت في جرائمٍ لتدخل الحبس مع الخطيرات، وهناك مزّقتْ أرديةَ الحبس قطعاً صغيرة، لتجمع دموعَ الأبرياء الحقيقية.
خرجت من الحبسِ مقوّسة الظهر، امرأة عجوز، لكنّ معها ثروة من خرقٍ عديدة مليئة بالدموع، برطلتْ حارسةَ الحبس لتسمح لها بالمرورِ بكنزها غير الواضح، شنطة قماشية، مليئة بشكل جيّد.
راحتْ إلى محفظِ الجثث، ووقفتْ تنتظرُ مع السّيّدات المكلومات جثثَ أبنائهنّ الذين ضحوا بحياتهم في الميادين في مواجهة الطغاة، وصارت عالمة بأماكن جمع الدّموع الحقيقية، ذهبتْ إلى الضيعات، الفقيرة، والعشوائيات التي كان يسري الدود بين أحيائها، والتقطتْ دموع أمهات ثكالى أخريات، شيعن أولادهن، الذين قتلوا غدرا حينما كانوا يدافعون عن الوطن.
وظلّتْ المرأةُ تجمع الدموع في ورقها، وتوفّرها بعناية في بيتها، قرأتْ كثيراً في أصول تخزين الدموع، اشترتْ الكثير من الكتبِ في هذا المجال، واتّبعتْ كل ما فيها من مشورات كيْ لا تطيرُ الدموع من محارمها، وكانتْ تعي حجمَ المهمة، لكنها كانت تدري أنّ أوانها سيأتي.
أقصتْ عنْ بيتها أيّة هبّةِ ريحٍ من شأنها أنْ تنشّفَ ورقَ محارمها، تخلّصتْ من المراوح، حرصتْ على قوة الشّبابيك، وجعلتها مُحصّنة ومحمية بالحديد.
لم تكنْ ترقد أبداً في غرفِ ورق المحارم، كلّما دخلتْ إلى بيتها ومعها محارم جديدة، كانتْ تشرعُ الباب بانتباهٍ وهدوء شديدين، كي لا تنسلّ هبّات الرّيح إلى الدّاخل، فتنشّفُ محارمها، وكانتْ تسدّ البابَ في هدوءٍ أشد، كيْ تصدّ أي ريحٍ من الحركة داخل بيتها، أو تهبّ بدموعِ محارمها،
هكذا مضىتْ المرأةُ تجمع الدّموع بأناةٍ، ولم تحسّ البتّة بأنّ عليها أنْ تقومَ بأيّةِ وظيفةٍ أُخرى في حياتها.
فالمستقبل الذي كانتْ تتخوّفُ منه أتى، رنتْ مفترّة إلى الدّموعِ الهائلة النّائمة في ورقِ المحارم، حينما علتْ رائحة بدنِها، طرقتْ جاراتها بابها، ثم فتحنه بقوة، فرحلتْ مطمئنة على نفسها وعلى الناس، حينما لم يكن بجوارِها أحد ليبكي عليها، وكانتْ آلاف القطرات التي جمعتها في صبرٍ تحيطُ بها.
حينما لم تجدْ الدُّنيا دموعاً لتذرفها على الضّحايا الذين كانوا في كل منطقة، في الطُّرقات وفي الميادين التي انفجرت فيها العربات المُفخّخة، في الطُّرقات المؤدية إلى ميادينِ القتال، كانتْ دُموعها هناك، مهيأة للبكاء على كل هؤلاء الشّهداء.
لقيتْ الدموع وقتها لتمنح من محارمِها، وتنطلق لتنسكبَ على النّاسِ، طارتْ في رفوف كثيرة فوق الدنيا، ثمّ انهمرتْ.