الكاتب الصحفي:عبد الله الجفري-الإمارات العربية المتحدة-خاص بـ"وكالة أخبار المرأة"
في مطلع القرن التاسع عشر كتب الاقتصادي البريطاني روبرت مالتوسوالذي كان محاضرا في علوم الاقتصاد والسياسة ،وكاهناً في الكنيسة الانجليزية في سنة 1798 سلسلة من المقالات حول العلاقة بين السكان والموارد الغذائية عرفت فيما بعد باسم "نظرية مالتوس" .. إذاً ما هي فحوى نظرية مالتوس ..؟ يقول مالتوس في نظريته إن عدد السكان في العالم في حالة ازدياد مستمر كل خمسة وعشرين عامابشكل متوالية هندسية أي ( 1 – 4 – 8 – 16 – 32 – 64 ..الخ)، بينما الموارد الغذائية تزداد بشكل طفيف لا يتناسب مع ارتفاع عدد السكان أي بمتوالية عددية (1 – 2- 3 – 4 – 5 ..الخ) بمعنى أن نمو الموارد الغذائية لا
يتناسب مع نمو السكان، وسيأتي اليوم الذي تعجز فيه هذه الموارد عن سد حاجة السكان، فتنتشر المجاعات في العالم، فالمالتوسية هي اجتهادات علمية لرجل اقتصادي، بنيت على معادلات زمانية ومكانيةعايشها مالتوس، فقدم تصوراته عن حل المشكلة التي عنتها انكلترا حينها، ولم تتح له الإمكانات لأن يرى معطيات تقوده إلى تصورات مختلفة ، حيث عاشت إنكلترا في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر تحولاً في طبيعة اقتصادها من الرأسمالية التجارية إلى الرأسمالية الصناعية، فأنشئت مناطق صناعية أدت إلى كثافة سكانية ،لم تقابل بسياسة تحد من آثارها مثل توفير المساكن والغذاء والتطبيب اللازم للعمالة الوافدة إلى هذه المناطق وعائلاتهم ، ما أفرز ازدحاماً بشرياً في المساكن المتوفرة والمحدودة وتقلص في إنتاج المواد الغذائية بسبب التحول الاقتصادي نحو التصنيع ، وهذا أدى إلى ارتفاع أسعار المنتجات الزراعية والغذائية، وازداد سوء حال الطبقة العاملة فانتشر بينها الفقر والبطالة، حتى باتت ظواهر التسول ،والتشرد ،والسرقة حالة يومية في المجتمع ،وأمام هذا الواقع المزرى ذكر في أحد كتبه ".. إنَّ الرجل الذي ليس له من يعيله ولا يستطيع أن يجد عملاً في المجتمع، سوف لن يكون له نصيب من الغذاء على أرضه، وبالتالي فهو عضو زائد في وليمة الطبيعة، ولا صحن له بين الصحون، وعليه فالطبيعة تأمره بمغادرة الزمن.."،واقترح مالتوس في النظريةالسكانية نوعين من الموانع تعمل على الحد من الزيادة السكانية هما : موانع قهريةوموانع إرادية ، فالأولى تؤثر مباشرة في عدد السكان مثل : المجاعات، والأمراض،والحروب، وفعلاً انتشرت هذه الموانع في الدول النامية الفقيرة ،وقضت على جزء كبير من السكان، أماالموانع الوقائية الإراديةتتمثل فيالامتناع عن الزواج أو تأجيله ، وتسود مثل هذه الموانع حالياً في الدول الصناعية المتقدمةوتنتقل تدريجيا إلى بلداننا،وفي المحصلة ينتج عن تطبيق المانعين توازن بين عدد السكان وكميات الغداء حسب رأي مالتوس، كما دخل في تفاصيل لشرح نصائحه وضرب الأمثلة، مثل نصيحته بعدم زيادة أجور العمال، لأن هذا سيدفعهم إلى الزواج المبكّر أو إنجاب عدد أكبر من الأطفال، كما أوصى بعدم الإنفاق على العاطلين عن العمل لأن هذا سيحولهم إلى كسالى، - وإذا نظرنا بتمعن في هذه النصائح سنراها تتناغم مع نصائح صندوق النقد الدولي للدول النامية في حاضر وقتنا -فهذه العوامل السلبية الوقائية أدت فيما بعد في اوروبا إلى انخفاض ملحوظ في نسبة الزواج بسبب الفقر أو غيره من الأسباب، وانتشرتالعلاقات الجنسية خارج نطاق الزوجية والعلاقات غير الطبيعية كالشذوذ الجنسي،واستخدام وسائل منع الحمل ، وقد حاول علماء اجتماع غربيون مثل "فوفت" رفع الروح في المالتوسية، معتبرين ان الحروب هي وسيلة مثلى لتحسين الظروف البشرية، لأنها تقضي على فائض السكانبشكل محسوس ،ومن العوامل المدمرة أن الدول الصناعية المتقدمة لمواجهة ارتفاع سعر النفط المهدد لاستقرار صناعاتها عمدت إلى زيادة معدلات إنتاج "الوقود الحيوي" ، الذي يقوم على استخلاص العناصر الصالحة للاستخدام كوقود من المنتجات الزراعية ذاتها، وهذه تمثل مشكلة أخلاقية وإنسانية كبرى عندما ينتج من منتجات غذائية ،تؤدي إلىحرمان الملايين من قوتهم.
مالتوس - حينها وفي تلك الأحوال السيئة لإنكلترا - لم يكن يتصور حصول ثورة تكنولوجية هائلة ستحدث تأثيراً كبيرا في زيادة الانتاج ومنها المواد الغذائية ، ولم يتبادر إلى ذهنه حينها حصول تطورا مذهل آخر وهو هندسة الجينات وقدرتها على زيادة المحاصيل الزراعية، ولذلك فإن معظم خبراء الاقتصاد، حتى نهاية القرن العشرين، اعتبروه مجرد حالم، ولم يأخذوا بنظريته، إلا أنهم بدأوا يعيدون النظر في حساباتهم، فمن وجهة نظرهم إن طاقة الأرض على احتمال البشر وحاجاتهم محدودة، فشبهوا الأرض بسفينة لها حمولاتها المحدودة من الركاب والبضائع لا تستطيع أن تتعداها، فإن أي زيادة في الحمولة عن المعدل سيغرق السفينة ، واليوم هذه السفينة ”الأرض" حسب نظرتهم وصلت إلى أقصى حد من حمولتها، فهي تحمل بين جنباتها ما يزيد عن ستة مليارات من البشر بكل احتياجاتهم الغذائية والسكنية والعلاجية، وتأمين وسائل مواصلاتهم وتواصلهم، من جانب اخر دفعت افكار وطروحات مالتوس، التي عرفت بـ” تناقص الغلة“ بعلماء اقتصاد لدراسة امكانية توفير مستلزمات العيش للبشرية، فيما اخذت دول عديدة ببرامج تنظيم الاسرة، خاصة المجتمعات الكبيرة مثل الصين، الهند، اليابان، مصر بل اصبح منهاج تنظيم الاسرة وتحديد النسل احد البرامج المتبعة في الكثير من الدول في العالم ، ورغم أن النظم الاشتراكية وقفت على تضاد كامل مع المالتوسية إلا أن الصين الشيوعية انتهت إلى تطبيق سياسة الطفل الواحد في الأسرة ،وهذا مثل استجابة واقعية لأفكار مالتوس
وبناءً على هذه النظرة التشاؤمية تماها مع نظرية مالتوس عدد من قادة الفكر والساسة الغربيين في القرنين التاسع عشر والعشرين، وفي قرننا الحالي الحادي والعشرون، وفي هذا المضمار التدميري تساوت سياسات الأنظمة النازية والفاشية والشيوعية والرأسمالية، تمثلت بممارسات الإبادة الجماعية للشعوب، وتاريخ البشرية الحديث شهد أحداثاً حصدت الملايين عبر حربين عالميتين وعشرات الحروب الاستعمارية ،وفي حاضر وقتنا استمرت مثل تلك السياسات ، فمثلاً قدم هنري كيسنجر دراسة وتوصيات لا انسانية للكونجرس الامريكي قال فيها " إن الزيادة السكانية في العالم تشكل خطرا على أمن الولايات المتحدة، ودعا حكومته الى اتخاذ الخطوات اللازمة (عن طريق الحروب وافتعال المجاعات مثلا) للحد من هذه الزيادة، وبالفعل أخذت الحكومات الأمريكية المتعاقبة بتوصيات كيسنجر، وطبقتها بشكل مكثف في منطقة الشرق الأوسط ، وهذا ما شهدناه من حروب حصدت الملايين في افغانستان والعراق ، وسوريا ،وليبيا، ولبنان، واليمن ،وبعض البلدان الأفريقية، وغيرها من بؤر التوتر والحروب ، كما أن انتشار جماعات التطرف الديني والعرقي حصدت المئات من البشر ، كما شردت الحروب وأعمال الارهاب ملايين أخرى من البشر، وبالمقابل اوصدت أوربا والغرب عموماً أبوابها أمام من قصدوا الهجرة اليها ،وتطبيق نظرية وتوصيات كيسنجر لم تتمكن من تخفيض عدد السكان إلا في الشرق الأوسط وبعض بلدان القارة الافريقية، وفي مقابل كل شخص سقط في منطقة حروب "الشرق الاوسط" بأسلحة غربية وأمريكية وروسية وصينة الصنع كان يولد في مناطق الانفجار السكاني في العالم "الصين والهند" ما يوازي 20 ألف صيني وهندي ،وهناك أيضاً قادة ومفكرون غربيون آخرون تناغموا مع نظرة مالتوس ،فالمستشارة الألمانية ميركل تضرب أمثلة لمناطق الانفجار السكاني "الهند والصين" تقول بما معناه "إن الناس في الهند تعدادهم فاق المليار وساد بينهم عادة تناول وجبتين في اليوم، بما يعني التزام ثلث الشعب الهندي بهذا المبدأ أي ما يقارب (300) مليون هندي ، فإذا قرر الشعب الهندي بأكمله تناول ثلاث وجبات ، فإن هذا سينعكس علينا، ثم ضربت مثالً آخر عن الصين وقالت : وإذا بدأ 100 مليون صيني في شرب الحليب أيضا، فإن حصص الحليب لدينا ستقل، فميركل، تقرأ الأزمة من خلال واقع الأمم المتقدمة، التي يجب أن يبقى أفرادها أصحاء وبعافية، بينما على الشعوب الأخرى أن تحافظ على عاداتها الغذائية ذاتها، وأن تكون عرضة للإبادة بالحروب والأوبئة والمجاعات.
ان للتطور العلمي في وسائل الانتاج دور في تحسين إنتاجية الغذاء، ويبدو ان مالتوس قد اعطى صورة قاتمة لمستقبل الانسانية فانه من جانب اخر دفعها لبذل المزيد من الجهود لحل هذه الاشكالية الخطرة، لقد حققت الانسانية تقدماً هائلاً على جميع الاصعدة العلمية، والاقتصادية، وسخرت العلوم والتقنيات لخدمة الانسان وتوفير مستلزمات حياته، واذا نجحت الدول المتقدمة في توفير الرفاهية لشعوبها وتنظيم الاسرة، فان على الدول النامية الاخذ بمسببات العلم لتطوير بلدانها والتخلص من الفقر والجهل والمرض والجوع والبطالة والحروب، بحسن استغلال ثرواتها ،وسيادة العدالة الاجتماعية،والاهتمام بالإنسان كونه أغلى وأثمن رأس مال.
مع ذلك تبقى نظرية مالتوس وقانون نقص الغلة جرس انذار خطير للبشرية جمعاء من اجل تقدمها وتطورها ورفاهها.