الكاتبة الصحفية: فاطمة غندور - ليبيا - خاص بـ " وكالة أخبار المرأة "
يا حجاركم يا مجاركم (*) نموذجٌ من نماذج الاستهلال في الحكاية الشعبية الليبية ( جنوب ليبيا ) ،شارة تنبيهية ، وتهيئة نفسية يبثُها مالك سلطة الحكى لمستمعيه ، طرفان متوازيان إنجذابا وتشوقا،ممثلان للقاعدة والقانون (اعلان البدء) بمجرد الاستئذان بما هو متعارف عليه ، فقد كان طقس الروي من الوظائف الحيوية الثابتة لأول عملية تربوية يتلقاها الأطفال في مجتمعهم، فدون كل عناصر الثقافة الشعبية تتميز الحكايات الشعبية كنشاط إبداعي وفن شفاهي بتقليد شعبي ممارس ومتفق عليه فيما يُسمى بـ " قعدة الخراف" أو "الخراريف" في أجواء عائلية أسرية ،أو قرابية، وقد تتسعُ لتشمل الجيران ، وهي جلسات تخضع لقواعد ابلاغية واتصالية بين طرفين ،مُرسل ومُتلقين، راوية ومستمعين ،في علاقة ألفة وحميمية تؤسس الراوية لذاكرة وتُجذر لقيم مجتمعها، مسرحها الليل ،اذا يحظر في النهار (أللي يخرف في النهار بوه حمار ) وكأن الجماعة التي قسمت زمنها اليومي الي نهار وليل تُدلل على تعاطيها مع واقعها وخلقها للتوازن الحياتي ،فالنهار للعمل والكد ولا فراغ فيه ليُملأ فيما مثل الليل المتنفس الوحيد للإنشغال بما يُستأنس له، ولإطلاق العنان للمخيلة المنفلتة المُحلقة في عوالم لا مشروطة أمكنة وأزمنة وكائنات. وفي اتكاءة على منهجية تعتمد قوانين بنائية للقص شعبي ومنها قانون التضاد (الثنائية الضدية ) اذ تقوم حبكة الحكاية على عنصرين متضادين : الخير الشر ، الجمال القبح ، الغني والفقر ،الخصب والجذب، الموت الحياة ، لتحقيق غرضها الأخلاقي الوعظي ،وثمة فرضية تؤسس لهذا القانون وترى ان الانسان القديم كان يُشخص كل ظاهرة سلبية ام ايجابية في شكل أله خير وآخر شرير ،وصراع الآلهة تطور الي صراع القيم البشرية في الحكاية الشعبية التي تبنى أيضاً على ثنائية الشخصية فالحكاية تقوم على قوتين متعارضتين تواجه كل منهما الاخرى :الكبير الصغير ،القوي الضعيف ،الفقير والغني ..لذلك اعتقد ان مضمون ياحجاركم يامجاركم يستند الي ذات العلاقة الثنائية المتعارضة في : حجاركم : جمع حجر وهو من أدوات الانسان البدائية الأكتر صمودا ومقاومة وإن مثل الحجر في تركيبة وتكوينة البساطة والوفرة لدى الشعوب لأنه يمثل القوة والقساوة والدوام ، اما مجاركم ،جمع المجارة وهي في الملفوظ الليبي قطعة من ذهب دائرية الشكل تحتوي نقشا على سطحها وتسمى"عصمانلي" كونها وريثة العهد التركي وغالية الثمن ،وقد حلمت النساء الفقيرات المعدمات بامتلاكها آوان الظروف المعيشية القاسية التي بالكاد تتيح الحصول على مايسد الرمق، فما بالك لما يستعملنه للزينه،وان كان يمثل ثروة وذخرا عند الحاجة لمن امتلكنه ،ولنا ان نتذكر أن الرواية (الانثى) تبث رسالتها شاكية موجوعة من ضعف الحال المعبر عن راهنها فيما ترغبه وفي ظنى - وهذه مغامرة ذهنية تأويلة- ان مدلولات الحجار والمجار تتسع للثنائيات الضدية التي تدور في فلك الكثير من المعاني : الرخيص والغالي،الوفرة والندرة، معطي(مادي)أساسي ومعطى تكميلي (جمالي) ، متداول ذكوري ومتطلع أنثوي، الواقع بما هو كائن،والحلم بما سيكون، ومن ذلك التمهيد الذي ستلج به الرواية عوالم من الأحداث والشخوص المتخيلة تضع سامعيها وتوجه عقلهم للأعتبار بمدخل قيمي وعظى مقارن كونهم عرضة في حياتهم للرفعة والحطة ،لان يُذلوا اختيارا أو جبرا،أو أن يرتفعوا ماديا أو معنويا ،وللأيام والسنين مداولاتها فلا ثبات على حال وتلك سُنة الحياة، وكما تؤكد خطابها التحذيري (المقارن) بالنداء الموجه لهم موصولا ،بشخص السلطان ذي المشيئة والإرادة التي لا يمكن لها ان تفوق مشيئة او أرادة الله، فالسلطان أيضا من تتعدد ازماته ( كواحد من العامة ) فتارة فاقدا للخلف، وتارة مغتربا لأجل مال وتارة أخرى باحثا عن حبيبة ضائعة ولا دوام للحال ! وياحجاركم يامجاركم على سلطان وما سلطان غير الله ،واللي عليه ذنوب يقول استغفر الله !.
و سأنشير الى ما تعجُ بها حكاياتنا من تيمات ومُوتيفات متعددة مازالت مُهمشة ومقصية من حيز الانشغالات البحثية الأكاديمية في بلادنا رغم مرور قرن ونيف على بروز مناهج تاريخية وجغرافية وسوسيولوجية وسيكولوجية ومورفولوجية ووظيفة، وما انبرى لاحقا من نظريات بنيوية وسيميوطيقية واعتماد كثير من الدول لأكاديميات متخصصة للدراسات الشعبية حفاظا على الهوية الوطنية،في كل بلاد يتشكل فيها مخزونها الارثى الحكائى على تنوع جغرافيتها وبيئاتها التي تمنح خصوصيتها للمتن، ونفقد على مر السنين حملة وحفظة تراثنا الشعبي في عمومه ، والقص الشعبي بخاصة بسبب غياب طقسه وأجوائه ، ومن واقع تجربتي الميدانية بجنوب ليبيا ورغم دأب بعض الروايات فيها على استحضار مناخات السرد الا ان مالمسته عند معايشتي لهن تركهن مثلا- وربما غير قصد - للازمتي الاستهلال والختام ،ربما لتحرج بعضهن أو عزوفهن في يومنا هذا لإعادة كرة طقوس الحكي ، رغم ما كانت تحظى الراوية به من مكانة - فيما مضى - عندما كان يتقصدها الأهالي طلبا لخراريفها التي تعمر ذاكرتها فتقبل عليهم متسلحة ومالكة لأدواتها المشبعة بجماليات المتعة والإفادة .
ولأهمية البحث في الحكاية يحتاج الباحث والدارس الى عدد وافر أو نماذج كافية للتدليل على الخصوصية المحلية لبيئة وملفوظ الحكاية ،وتبيان الفروق بين البيئات والمناطق الجغرافية التي انبثقت ونبعت منها الحكاية .اذا أنه من الطبيعي أن تُنسج أحداث الحكاية من خلال أبطالها وشخوصها المتعددة مُتخدة من الحيز المكاني والبيئى مرجعا ًو علامة لها حتى أن بعض الحكايات الشعبية ومن خلال التجربة الميدانية كثيرا ما تُدلل على مكان حدث معين أو اسما لشخصية توارثت المكان - مستندة على مايعرفه السامعون وما آلفوه داخل محيطهم ويكون ذلك تقصدا لتصير عوالم الحكاية ابنه بيئتهم القريبة ومتوافقة ومتصلة بالظروف الحياتية التي يبصرونها ويتعايشون معها ، وما يعلل ذلك فرادة الحياة المجتمعية في كل مجتمع بشرى ،وخصوصيتها فحكاية اي مجتمع أو أي بيئة هي قبل كل شيء نتاج البيئة ، والعلاقات الاجتماعية التي نشأت فيها ، ومن الظلم والأجحاف الحكم أو التحيز لجماعة منتجة لحكاياتها الشعبية وإطلاق استنتاجات عامة لتشمل حيزا مكانيا آخر،ما لم يتم جمع ورصد ودراسة نتاجها الحكائى،والكشف عن مضامينه كما يُذكرنا بذلك العالم الانثربولوجي محمد الجوهري ، حتى وان تشابهت الحكايات في طرح أفكارها الرئيسية إذا ماتعلقت بقيم مجتمعية سادت كصراع الأخوة ، والغيرة النسوية وظلم زوجة الأب والزوجة المسحورة والصديق الخائن فأن لكل منها عوالمها ومكوناتها المنطلقة من بيئتها ومكوناتها الاجتماعية والثقافية .
(*) يا حجاركم يا مجاركم هو عنوان كتابي الاول صدر (2006) والذي يُصادف اليوم سنتهُ العاشرة ( 2016).