هدى ثابت - فلسطين - خاص بـ " وكالة أخبار المرأة "
عندما تتواصل الأرواح بين سيدتين عربيتين إحداهما قرشية عباسية والأخرى كنعانية فلسطينية، عندما تمتزج الشخصيات وتتآلف على الرغم من السنين والسنين التي تفصل بينهما، عندما تصبح إحداهما مرآةً للأخرى، وتأخذ الكنعانية الفلسطينية في القرن الواحد والعشرين على عاتقها استكمال دور القرشية العباسية، من حيث موقعها الذي يجب أن يكون مؤثراً في الحياة، عندما تمتص العروق صفوة المعرفة وتعاود فرزها أدباً وفناً وقيماً ذات معنى، حينها تتأكد من أن الدور الإنساني الثري لا ينتهى بفناء صاحبه، سيرثه لا محالة أحد الأبناء أو البنات ويعمل على بلورته من جديد بأسلوبٍ حضاري يتماشى وظروف تواجده في فترته الزمنية التي قُدر له أن يعيشها، من وحي اسمها "زبيدة"، تلك العباسية القوية بالمعرفة الشغوفة بالعلم والأدب، تسللت قطرات من العشق إلى ان وصلت لقلب وعقل هذه الكنعانية الفلسطينية القوية بذات السلاح المعرفي الثقافي المستنير، قطرة فقطرة إلى ان شكّلت هذه المنظومة الثقافية المموسقة.
"الست زبيدة" رواية طويلة للكاتبة "نوال حلاوة" أفردتها على 350 صفحة من القطع المتوسط ، وأصدرتها كطبعة أولى في 2015 وزعتها الدار العربية للعلوم ناشرون ، لوحة الغلاف هي للدكتور جمال بدوان ، كان إهداء الرواية على أول الصفحات زلزالاً يصدم القارئ وخاصة "الفلسطيني" حيث أن الروائية قد خصّت عروس المتوسط مدينة يافا وسيدة الفلسطينيات فدوى طوقان به.
لعل جميع الفلسطينيين يتفقون على أن مدينة يافا عروس المتوسط كما أن جميعهم يتفقون على أن فدوى طوقان هي منارة فلسطين الثقافية وعنوان تنويرها، عندما تقع عينيك على إهداء الست زبيدة لمدينة يافا ولفدوى طوقان تسري تلك القشعريرة اللذيذة في عروقك لفرط ما يعنيه الاسمين للفلسطيني أياً كان دوره في مجتمعه وقضيته.
تفرد نوال حلاوة 350 صفحة في روايتها الست زبيدة لسرد سيرتها الذاتية في عدة محاور ، مرحلة الطفولة المبكرة في مدينة يافا قبل نكبة عام 1948 ، تبحر خلالها في جماليات الوصف ورشاقة التعبير ، إلى سنين كانت يافا ملكاً لأهلها الحقيقيين، وتغرق في سحر المتوسط وعبق البرتقال وأصالة التاريخ، تبوح الروائية بتفاصيل الحياة التي غابت عن كثير من الروايات الفلسطينية، تلك التفاصيل التي لم يعشها جيل القرن الواحد والعشرين ولا حتى جيل السنين الأخيرة في القرن العشرين، خفة التعبير وسلاسته على القارئ يمنحه تنقلاً رشيقاً من باب إلى آخر، لا يصادف الباحث عن متعة القراءة ألغاماً لفظية تجعله يعزف عن استكمال القراءة، تسير بخفة مع الست زبيدة الطفلة منذ نعومة أظفارها في تفاصيل غابت عن حياتنا الحديثة، من حيث علاقتها المميزة من الأب التاجر وتعلقها كطفلة به، وعلاقتها بالأم التي كانت رمزاً للأم الفلسطينية في ذلك العصر.
تدخل مع الست زبيدة في علاقات عاطفية مع الأخوات والإخوة، الأعمام والأخوال، الجبال والبحر ، القمح والبرتقال ، حتى تلك العلاقات التجارية آنذاك تجد نفسك شاهداً عن طيب خاطر عليها ، تتقمص شخصيتها كقارئ وتشعر بذات شعورها تجاه علاقاتها وتدافع لا شعورياً عن رأيها في كل تفاصيل الحياة آنذاك.
تتجه الست زبيدة بعيد قليل ، إلى وصف الواقع السياسي لفلسطين في مرحلة طفولتها المبكرة، شارحة بذكاء منقطع النظير دورها كطفلة شاهدة على النكبة والتهجير، ومفسرة بدقة فهمها الطفولي لتلك المصائب التي حلّت بالبلاد والعباد.
كنت شخصياً منبطحة على أرضية الباص الذي قلّ الأم والأبناء والست زبيدة معهم ، تبعاً لأوامر الأم الخائفة على أبنائها من رصاص مسعور يتطاير في كل اتجاه ، كنت شخصياً أشتم رائحة الهجرة والظلم، تجلتْ أمامي عدم انسانية العالم عندما سمح حينها أن تُسلب دمية من يد طفلة هاربة من الموت ، لأن لا متسع للدمية في سيارة الهروب القاتمة .
تنبري نوال حلاوة بعد تشخيصها للحالة التاريخية العامة للفلسطينيين بنكبتهم وتهجيرهم، لوصف الحالة بعد ذلك بدقة متناهية وبأمانة حرصت على حملها بكل صدق ، حيث أن قضيتنا بأمس الحاجة للأمانة في النقل والتأريخ والتصنيف والشرح الدقيق لتفاصيل أناس ظلمهم العالم بأسره.
كتبت نوال حلاوة سيرة شعب كامل وليست سيرة ذاتية ، كتبت نوال حلاوة شاهدتها على عصر الظلم والهجرة والوطن السليب عبر قصة حياتها المتسلسلة بتسلسل قضية بلادها، ربما هي مصادفة الأقدار أن يكون تاريخك الشخصي هو ذاته تاريخ قضيتك، ربما هو القدر الذي جعل اليد التي خطّت سيرة ذاتية شخصية هي ذاتها التي خطّت سيرة شعب .
تمكّنت نوال حلاوة من أخذ القارئ إلى مساحات شاسعة سبرت أغوارها بكل دقة وغطّت تفاصيلها بكل ذكاء ، شخّصت فيها الوضع الفلسطيني في الشتات وأغرقت دموع القارئ بحلم العودة الذي لم يفارق الفلسطينيين في أي لحظة عبر علاقة العشق الممزوجة بالحنين والتراب وكيف تتحول في لحظة لذكاء خارق بنقل انسان متوفي ليدفن في تراب يافا رغماً عن المحتل المتربص بأي عاشق يرنو لتراب وطنه.
كانت الست زبيدة ذكية لدجة ان جعلت من الرواية مشروعاً وطنياً تحررياً توعوياً ، سطّرت بحروفها قصة نضال شعب كامل ، وزينتها بعروس المتوسط يافا وسيدة فلسطين فدوى طوقان ، نوال حلاوة الست زبيدة ، ورثت تلك العباسية المهمة في عصرها ، وجيّرت ذلك الإرث لفلسطين والحرية .