هدي السنة في المهور
قد روى الإمام أحمد في مسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "من أعظم الزواج بركة أيسره مؤنة". وروى أبو داود، والحاكم وصححه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "خير الصداق أيسره". وكانت زيجات الرسول (خير تطبيق لهديه الكريم في هذا المجال. فعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أعتق صفية وجعل عتقها صداقها [متفق عليه]، وروى مسلم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه قال: "سألت عائشة رضي الله عنها كم كان صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: كان صداقه ثنتي عشرة أوقية ونشا. ثم قالت: أتدري ما النش؟ قال: قلت: لا قالت: نصف أوقية. فتلك خمسمائة درهم. فهذا صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزواجه" [رواه مسلم].
وعندما زوج النبي صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال له: أعطها شيئاً. فقال: ما عندي شيء. قال النبي صلى الله عليه وسلم: فأين درعك الحطيمة؟ [رواه أبو داود والحاكم وصححه، والنسائي].
الآثار الاجتماعية لغلاء المهور
يؤكد علماء الاجتماع والتربية أن تأخر الزواج قد يؤدي إلى زيادة الهوة العمرية بين الأبناء والآباء بما ينعكس سلبيا على عملية التنشئة الاجتماعية للأبناء، كما يصاحب تأخر الزواج رؤية اجتماعية يشوبها نوع من الاستنكار أو الشك، بل والرفض الاجتماعي في بعض الأحيان تجاه هؤلاء الذين تأخر زواجهم أو زواجهن.
والفتاة التي يتأخر زواجها بعد سن (35) عاماً يغلب عليها الشعور بالعزلة، وتجنب الدخول في علاقات مع الآخرين هروباً من الأسئلة المضايقة المتعددة عند الحديث عن مشروع زواجها مما يجعلها فريسة سهلة للوقوع في براثن الاكتئاب، خاصة في ظل غياب المساندات المشكلة بمرور الوقت دون البحث عن حلول عملية وسريعة لهذه المشكلة التي بلغت مستويات تنذر بعواقب وخيمة من الأمراض النفسية للعديد من الفتيات اللائي يعانين من العنوسة ولذلك على الأسرة أن تراعي الحالة النفسية للفتاة وألا تجعل من الزواج مشكلتها لوحدها، لأن هذه المشكلة تحتاج لتضافر جهود جميع المؤسسات في المجتمع.
كذلك من النتائج السلبية للعنوسة كبت مشاعر الأمومة عند الفتاة العانس، لأن مجتمعنا يرفض إشباع هذه الغريزة عن طريق التبني.. فنتيجة لذلك تلجأ بعض الأمهات إلى تشجيع فتاتها على الاختلاط بالشباب ومصاحبتهم لضمان العريس والكثير من التجاوزات الأخرى.
والإسلام يبارك الزواج ويحث عليه، كما يحارب – في الوقت نفسه – كل ألوان الإشباع الجنسي من غير طريق الزواج: كالزنا أو اللواط أو المساحقة أو الاستمناء أو غير ذلك من أشكال الانحراف الجنسي.
غير أن واقع المسلمين اليوم يكشف عن مآس اجتماعية أليمة تتسبب عن المغالاة في المهور ومن هذه المآسي:
1- تأخر سن الزواج بين الشباب، وقد كشفت البحوث الطبية الحديثة أن خير الإنجاب هو ما يكون فيه الزوج [أو الأب] بين الخامسة والعشرين والثلاثين، وما تكون فيه الزوجة [أو الأم] بين الثامنة عشرة والخامسة والعشرين.
فالوالدان في هذا العمر ينجبان أبناء أصحاء جسدياً ونفسياً ويتمتعون بمستويات أعلى من الذكاء، وكلما تأخر سن الزواج - وبالتالي الإنجاب - ازدادت فرص ولادة أطفال أكثر عرضة للتخلف العقلي والأمراض الجسدية.
2- الانحراف الخلقي: إن المغالاة في المهور تدفع الشباب -وخاصة ضعفاء الإيمان- إلى الانحراف الخلقي بأشكاله المتعددة المعروفة وهذا يشكل أعظم الأخطار التي تهدد الأمة الإسلامية.
3- انهيار قيمة التراحم والتواد بين المسلمين: لقد حضّ الإسلام على التراحم والتواد بين المسلمين فيما رواه ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلمٍ كربةً من كرب الدنيا فرج الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة"، والمغالاة في المهور تقتل قيمة التراحم السامية في حياة المجتمع المسلم.
4- التكالب على المادة: إن المغالاة في المهور تنم عن جشع مادي رخيص، وتكالب حقير على المتاع الزائل، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، بل ودعا بالتعاسة على من يكون همه المال فقط. فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة [الخميصة كساء أسود مربع له أعلام وخطوط وهي كناية عن التفاخر بالأزياء الفخمة] إن أعطى رضي وإن لم يعط سخط. تعس وانتكس. وإذا شيك فلا انتقش [شيك: أصابته شوكة، انتقش الشوكة: أي استخرجها، فالدعاء معناه ألا يهدأ له بال أبداً إذا أصابه هم أو غم أو ألم].
نظرة الإسلام إلى الزواج
إن نظرة الإسلام إلى الزواج تقوم على أساس أنه رباط روحي وجسدي مقدس تتكون من خلاله أسرة مسلمة تأتلف عناصرها على المحبة والألفة والرحمة والتواد، قال تعالى: "ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة * إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون". فإذا تم الزواج بعد أخذ ورد وعناء وشد وجذب فيما يتعلق بالمهر، فإنه يكون من البداية معرضاً للفشل لما شابه من جشع وتفاخر وتكاثر.
ومع ذلك فإن الإسلام لم يحدد للمهر حدوداً قصوى، فقد تركه تبعاً لحالة راغب الزواج المادية، فإن كان ميسوراً فلا بأس إذا كان المهر كبيراً، لأنه لن يمثل بالنسبة له عبئاً يعوقه عن الزواج.
أما الخطأ كل الخطأ فهو أن يغالي والد العروس في المهر إزاء شاب يرى فيه الصلاح وضعف القدرة المادية، فالواجب على المسلمين أن يسارعوا إلى القضاء على هذه الظاهرة التي تهدد شبابهم وتسيء إلى سمعتهم وتهدد أمتهم بالتباغض والتحاسد وتبذر في مجتمعهم بذور الحقد والضغينة، وعليهم أن يعودوا إلى هدي نبيهم صلى الله عليه وسلم.
وما أحرى العلماء أن يكونوا هم القدوة الحسنة في هذا المجال فيزوجوا بناتهم بأيسر المهور حتى يقتدي بهم الآخرون. هذا وبالله التوفيق.