تتمشى ام جمال برفقة زوجها في شوارع قريته الضيقة ، تراقب بعين متفحصة كل المشاهد والصور من حولها ، يتوغلان في طرقات فرعيه ضيقة ترابيه تتوزع على اطرافها بيوت بسيطه يحيط بكل منها بستان صغير عامر باشجار الزيتون والتين والدوالي ، تلمح ام جمال العديد من النسوة يجلسن في حلقات على كراسي قش صغيره يتجاذبن اطراف الحديث يحتسين القهوه ويتمتعن بدفء الشمس ، ام جمال التي نشأت وتربت في المدينه تسأل زوجها ( ماذا تفعل هؤلاء النسوه امام باحات المنازل والساعة قاربت على الحادية عشرة صباحا ؟ اليس لديهن اعمال منزلية ، اليس المفروض ان تكون كل واحدة منهن منهمكة الآن في اعداد طعام الغداء ؟) يجيب زوجها ( هنا، بمجرد ان تبلغ البنت التاسعة او العاشره فان امها تخلد الى الراحة والدعه ، وتلقي باعباء المنزل والطهي على كاهل بناتها ، واذا تزوجت البنات فالمسؤولية تنتقل الى زوجات الابناء ) .
- كنت في العاشرة من العمر عندما كانت امي تأخذني معها لزيارة صديقتها ( امينه) كنت امحص النظر في وجه امينه بحثا عن تعابير او اثر لابتسامه وكنت دائما افشل في مسعاي ، كانت تتكلم بهدوء وبلكنة تحتاج الى تركيز لفهم ما تود قوله ، الصمت يغلب على الكلام واليدان دائما متشابكتا الاصابع وملقاتان على البطن المترهلة من كثرة الولادات .
كبرت وكبر فضولي لمعرفة قصتها ، قيل لي ان والدة امينه تزوجت من والدها وهي في الثالثة عشر من العمر ، وماذا عسى ان تصنع فتاة في هذه السن المبكرة اذا تزوجت سوى ان تنجب وتنجب تباعا في زمن لم يكن الناس فيه قد تعرفوا بعد على موانع الحمل او فهموا معنى المباعدة بين الاحمال ، كانت امينه بكرها وما ان بلغت الثامنة من عمرها حتى تولت مسؤولية تربية اخوتها الثلاثه ، كانت امها تنام حتى الظهيرة وتترك الاطفال في عهدتها ، روت مرة لاحدى صديقاتها انه بينما كانت امها تغط في نوم عميق ، كان اخوتها الثلاثه غالبا ما يقفون صفا امامها، احدهم بلل ثيابه ويحتاج الى التنظيف والآخر يبكي من الجوع والثالث يبحث عمن يلاعبه ويدللــه ، مضت السنون بأمينه وهي على هذه الحال ، حتى انطفىء في داخلها فرح الطفوله وذوت المشاعر نتيجة الحرمان من حاجات اساسيه مثل النوم لساعات كافيه والرغبة في اللعب مع الاقران وحتى الحصول على طعام جيد ، ولدت امينه امراه ناضجه وقفزت على مراحل الطفوله والمراهقه دون ان تعيشها ، ولذلك فعندما تزوجت وانجبت لم تكن تشعر بشغف الامومه فقد استنزفت امومتها باكرا ، ولسوء حظها رزقت بابنتان شرستا الطباع كلما طلبت منهما تقاسم الاعمال المنزليه تبدءان في الصراخ والعراك مع بعضهما البعض . مضت امينه الى ربها قبل امها ، فقد كانت امها في وضع صحي افضل من ابنتها بمراحل .
- حكاية ام جمال مضى عليها عشرون عاما وامينه ايضا تنتمي للجيل السابق فهل توقفت حكاية ظلم البنات عند الزمان الماضي ؟ وهل اقتصرت على الريف دون المدن ؟ لا اظن ذلك فما زلت ارى مشاهد مشابهه وان كانت اقل حده في الريف والمدن تقوم فيها نساء متعلمات عاملات بظلم بناتهن بالقاء مسؤوليات جسام عليهن ، رأيت نساءا يجلسن على المقاعد ويكتفين بتوجيه الاوامر الى بناتهن ،وحتى طهي الطعام الذي من المفترض ان يكون واجب الام ،، يحمل بصمتها ونفسها يكون من نصيب البنات ، واذا ما اعترض الزوج على هذا الوضع يكون رد الزوجه ( مش عاجبك جيب شغاله) .
- للاسف بعض النساء يعتقدن ان العمل المنزلي يقلل من شأنهن ، ولا يدركن ان منزل العائله هو اهم واخطر مؤسسة تحتاج للادارة الناجحه والجهد الدؤوب ، ولا انكر ان من واجب الام تدريب ابنتها على الاعمال المنزليه ومهارات الطهي وسواها ولكن ذلك ينبغي ان يحصل بالتدريج دون ان يؤثر ذلك على نموها الجسماني وعلى حاجاتها النفسيه ، مشكلتنا اننا لا نتقن فن الامساك بالعصا من الوسط ، مع ان رب العزة قدر علينا ان نكون امة وسطا في كل شيء ، ففي الموضوع الذي نبحثه هنا،، فان الام اما ان تجور على ابنتها بانهاكها بالاعمال المنزليه المتواصله او تتركها تتصرف بوقتها كما تشاء امام شاشات الكمبيوتر والتلفزيون والهواتف الخلويه وتقوم باحضار خادمة للمنزل تتباهى بها كجزء من الوجاهة الاجتماعيه ، نرتشي ، نستدين ، ننغمس في قروض البنوك من اجل الوجاهه والمظاهر الخادعه .