هالة الكارب - " وكالة أخبار المرأة "
تعتبر إثيوبيا واحدة من أكثر البلدان الإفريقية كثافة من الناحية السكانية، إذ تقدّر احصاءات صدرت حديثاً تعداد السكان هناك، لما يزيد عن الـ"100 مليون شخص. وقد شهدت إثيوبيا تاريخيّاً، هجرات مواطنيها إلى أصقاع مختلفة من العالم، وبصورةٍ خاصّة الهجرة التي جرت خلال فترة السبعينيات والثمانينيات بسبب الحرب والقمع السياسي اللذين شهدتهما البلاد آنذاك. ما أدّى في النهاية، إلى بروز تدفّق أكبر موجة من اللاجئين والمهاجرين من إثيوبيا الى مختلف انحاء العالم. وعلى غرار بقية دول منطقة القرن الإفريقي، شهدت إثيوبيا أيضاً على مدى السنوات الـ"40 المنصرمة، ظهور أنماط مختلفة من موجات الهجرة. بجانب الحرب والقضايا السياسية، شكلت العوامل الاقتصادية في السنوات الأخيرة، دافعا كبيرا في هجرة الإثيوبيين من الرجال والنساء إلى أماكن مختلفة من العالم.
توفّر التحويلات المالية القادمة إلى إثيوبيا من جاليات المهاجرين، مصدر أساسي لدخل الأسر، وتؤازرهم في الاعتماد على أنفسهم وقضاء حوائجهم الأساسية. و في معظم الحالات، ترسل العاملات المنزليّات مبالغ تقارب كامل دخلهنّ الشهري، كتحويلات إلى أسرهنّ، التي تعتمد على هذا النوع من المساعدة المالية في تغطية تكاليف المعيشة.
وقد شهدت حقبة التسعينيات، تزايد كبيرا في أعداد الفتيات والنساء الإثيوبيات الريفيات اللواتي يهاجرن إلى الشرق الأوسط ودول الخليج العربي ، سواء إن كانت هجرتهن تجري بوسائل مشروعة أو مستترة. ومن ناحية اخرى من الثابت، ان الطفرة النفطية ادت الي تحولات اجتماعية وثقافية عميقة في منطقة الخليج العربي فبالإضافة الى ان المنطقة صارت في مصاف أغنى دول العالم، من خلال تحقيق مستوى أعلى للمعيشة وبناء متكاملا للبنية التحتية وخدمات التعليم والصحة ، أدّى المال الوفير ومستوى المعيشة الرغدة، إلى تغيير عميق في أنماط التفاعلات الاجتماعية داخل تلك المجتمعات. وبات تواجد العاملات في المنازل، يشكِّل باستمرار دلالة رمزية للمكانة الاجتماعية والوجاهة، والثروة "وهو امر ليس قاصرا على مجتمعات الخليج العربي فقط". وبالتالي فإن معظم العائلات في تلك البلدان اصبحت قادرة على استئجار عاملة منزل أو أكثر .والحال، فإن هذه الإمكانيات الجديدة، مهّدت الطريق تجاه إعادة تعريف مفهوم الطبقة بالنظر إلى وجود العاملات في المنازل.
ومن المهم أن نلاحظ هنا، أن النساء العاملات في المنازل في الشرق الأوسط ودول الخليج يجري تصنيفهنّ وفق سُّلّم تراتبي عرقي متزمِّت، تتبوأ فيه النساء الفليبينيات أعلى الهرم، ويستحوذن بذلك على مكانة رفيعة ويتحصلنّ على أعلى الرواتب. تليهم في المرتبة النساء الإندونيسيات والسيريلانكيات، فيما تأتي النساء الإفريقيات في المرتبة الأدنى من السلم الوظيفي.
وقد انتقلت ظاهرة عاملات المنازل المهاجرات الى العديد من دول الشرق الأوسط الأخرى مثل لبنان والأردن واليمن حيث انه رغم فقر تلك الدول الا ان الحراك الساسي والاقتصادي بها اوجد اقلية مرفهة تمتلك المقدرة على التعاقد مع عاملات منزل من المهاجرات
و الجدير بالملاحظة، أن السنوات الأخيرة شهدت تزايدا في بروز اتجاهات تستنكف العمل المنزلي في العديد من البلدان بما في ذلك بلدان الفقيرة مثل السودان، حيث يجري وضع العمل المنزلي ضمن ما يطلق عليه بـ"ثقافة العيب". ويبدو أن مردّ هذه النظرة السالبة تعود أساسا إلى استفحال الاستقطاب الاجتماعي والثقافي في تلك المجتمعات، لدرجة تجعل حتىّ الشخص الفقير يفضِّل أن يبقى بلا مأوى أو يخرج للشوارع متسولاً، عوضا عن القيام بتأدية الأعمال المنزلية. (تقرير منظمة العمل الدولية، 2014). وقد أدّت هذه الظاهرة إلى زيادة الطلب نحو العمالة الوافدة، وبالتّالي إلى تزايد معدلات الهجرة.
هذا من ناحية سوق العمل وما هو واضح ومتداول. اما المستتر في قصة عاملات المنازل الاثيوبيات فيكمن في التناقضات الكامنة بين تطلُّعات الفتيات القادمات من الريف الإثيوبي وبين الواقع القاسي الذي تعيشه العمالة الوافدة من النساء في دول الشرق الأوسط والخليج العربي. ففي الوقت الذي تركّز فيه تلكم النساء سواء إن كنّ من النساء اللواتي جرى تهريبهن أو الاتجار بهن أو هاجرن بمحض إرادتهن- على الحصيلة النهائية للهجرة، بما في ذلك التحسن المرتقب في أوضاعهن الاقتصادية؛ إلاَّ أنهن يفتقرن إلى المعلومات الضرورية المتصلة بواقع الحياة المعاش الذى سيواجهن به حال ما تركنا بلدهن، وذلك مثل طبيعة ونوع العمل الذي ينتظرهن، ومعرفة القواعد والتقاليد التي ستحكم حيواتهن اليومية. ثمّ يأتي نقص المهارات اللغوية والعيش بعيداً عن شبكة الدعم المألوفة، ليفاقم من عزلتهن ويجعلهن أكثر قابلية للتعرض إلى الخطر (أو العنف).
كذلك، من الناحية الثقافية والاجتماعية، تعتبر مجتمعات الدول العربية بطبيعة تكوينها وعزلتها الثقافية من المجتمعات التي تعانى من انقسامات عميقة على أسس قبليّة وطائفية. فضلا عن ذلك، فإن مجتمعات الخليج والشرق الاوسط بشكل عام ماتزال تتبني ثقافة عنصرية متأصلة ضد الشعوب المنحدرة من أصول إفريقية وذلك برغم من القرب الجغرافي والتقاطعات الثقافية بين المنطقتين (العربية والإفريقية).
تجد العاملات الاثيوبيات في بلدان الخليج العربي والشرق الاوسط أنفسهن في واقع معقد يفوق أدراكهن وذلك بداية من القوانين المقيّدة للعمال المهاجرين، والتي في الغالب لا توفِّر الحماية للعمال الي عدم وجود نظام قضائي فعّال يتصدّى لقضايا الانتهاكات وحقوق النساء. كما أن نظام الكفالة العمول به يمنح المسؤولية القانونية لأرباب العمل ليتولوا المسائل المتصلة بالإقامة وتشغيل العاملات بالمنازل. وهو ما يتيح لأرباب العمل صلاحيات واسعة في السيطرة على العاملين حيث تتعرض النساء الى مستويات متعددة من العزلة وسلب الارادة الانسانية بداية من حجز جوزات السفر الي حبسهن في داخل المنازل لفترات مطولة. والسيطرة على العاملات من النساء تبدو الأكثر رواجا، لأن النساء في دول الخليج في العموم يتعرضن تقليديا إلى قيود وقوانين قاسية عبر الأعراف والقوانين التي تشجع على خضوع النساء في المجتمع، سواء جرى ذلك عبر قوانين تتصل بالزي أو القوانين التي تنظم وجودهن في الأماكن العامّة. وهكذا، تتضافر كل هذه العوامل ضد النساء المهاجرات لتجعلهن أكثر عرضة للعنف.
الأدهى من ذلك، إن العديد من الفتيات المهاجرات من الريف يواجهن بقضية تغيير هوياتهن الدينية، بل حتّى تغيير أسمائهن. إحدى النساء اللواتي شاركت بسرد قصتها، تقول:
عندما وصلت إلى المطار، أخبرني ممثل (الوكالة) بأنني مسلمة. فاجأني الأمر، لأني لم أكن أعلم بهذه المعلومة، ولم أكن حتى ارتدى اللباس مثل المسلمين، أو أمتلك صورة بالحجاب في جواز سفري. بالأحرى، كنت ارتدي الصليب في عنقي، وقد طلب مني إزالته. كيف لي أن أكون مسلمة، بينما لا أعرف شيئا عن الدين؟ أخبرني الوكيل، بأني سأتمكن من تجاوز هذا الأمر، وهو ما لم يحدث. لأن أرباب العمل، طردوني بعيدا عندما اكتشفوا بأنني لست مسلمة كما زعمت.
إضافة إلى ذلك، تواجه النساء تحديات مضاعفة في شهر رمضان، تبدأ بفرض الصيام على العاملات اللواتي يتوقع منهن العمل أثناء الليل و النهار. "تخيّلوا، صعوبة أن يصوم الشخص ثم يقوم بكل تلك الأعباء. خلال شهر رمضان يتوجب على العمل ليلاً ونهارا، ولا استطيع الجلوس (ولو لبرهة) لتناول الطعام كما يجلس أرباب العمل يأكلون لساعات. كنت أموت من الجوع وانا اقوم بخدمتهم ".
في نفس السياق، تحدثت فتاة أخرى عن تزايد قلقها والقسوة التي واجهتها في إحدى دول الخليج. "بما أنني لم أكن أتقن اللغة العربية، فقد كنت أخطئ في فهم التوجيهات التي يطلب مني تنفيذها. وبالتالي، كنت أقوم بتأدية عمل يكون عكس ما طلب مني. وكان ردهم (على سوء فهمي) يأتي بالضرب".
وتشمل الانتهاكات التي تواجهها العاملات ممارسات مثل العنف الجنسي، والحمل الناتج عن الاغتصاب، والأمراض المنقولة جنسيا، والتعذيب بأشكاله المختلفة مثل الممارسات التي يترتب عنها كسور أو حروق في أجزاء من الجسم، والانتهاكات العاطفية المستمرة لاسيما الممارسات المصحوبة بعدم دفع الرواتب أو دفع أجور منخفضة لسنوات. تترتب عن هذه الانتهاكات سلسلة من الصدمات النفسية والعقلية بين أعداد كبيرة من عاملات المنازل المهاجرات.
الخطورة في مهنة الأعمال المنزلية تكمن في حقيقة أن العمل فيها يجري إلى حد بعيد في فضاءات خاصّة وشبه معزولة. ذلك لأن الفضاء العائلي في دول الخليج فضاء معزول على نحو مبالغ فيه، وبالتّالي، فإنه يجعل العاملات عرضة لكافة أشكال الانتهاكات. أمّا التحدي الآخر، فإنه يتصل بحقيقة أن عاملات المنازل لا يعتبرن ضحايا أرباب العمل والظروف القمعية فحسب، إنما تبدأ محنة مواجه التعسف من داخل البلد حيث يقوم المهربين بالتضليل وقطف ثمار جهود العاملات .
حقيقةً، الاشكالات المحيطة بقضية انتهاكات حقوق النساء المهاجرات العاملات في المنازل من إفريقيا، ذات أوجه متعددة ، من بينها قضية العرق، والجندر ومجال العمل. وتبدأ سلسلة الانتهاكات عادة من داخل البلدان المصدرة للعمالة، وذلك بحكم اوضاع النساء الريفيات المتدنية. حيث لا تتوفر لتلكم النساء فرص الحصول على كسب العيش و الوعي بمخاطر هجرة النساء الي الخليج و الشرق الاوسط . كل هذه العوامل مجتمعة تضعهن ضمن قائمة المجموعات الأكثر تعرضا للمعاناة بين العمال المهاجريين حيث انهم لا يدركون ان هروبهم من رمضاء الفقر والحرمان في بلدانهم انما يقودهم الي نيران من العسف والعنصرية و صنوف من التعذيب.
هذا المقال كتب على خلفية بحث قامت به شبكة صيحة حول قضايا النساء المهاجرات من اثيوبيا الى دول الخليج العربي والشرق الاوسط.