الكاتبة الصحفية: أسماء محمد مصطفى - العراق- خاص بـ " وكالة أخبار المرأة "
الكتابة عن تجربة ذاتية مؤلمة في إحدى غاياتها ، أن تقدم عبرة للآخر الذي يعاني ماتعانيه ، لكنه قد لايكون قد استخدم أسلوبك في التعامل مع الألم ، لذا تقدم له تجربتك كما هي بدلا من كتابة مقال بلغة موضوعية قد تظهرك متعاليا على جرحه لأنه لن يدرك أنّ همّك يشبه او يطابق همّه .. الكتابة عن تجربة ذاتية بهذه الرؤية والهدف تتجاوز الذاتي الى الموضوعي ..
*****
ـ حين تكون مبتليا بهّم كبير وحزن عميق طويل الأمد ، تبقى الأفراح الصغيرة شموعا قصيرة العمر .. فالفرح العابر فتات عند مائدة الحزن الراسخ .. لكن تبقى لهذا الفتات قيمة بالرغم من أنّه لايمحي الألم .. فهو مثل المسكنات التي لاتعالج المرض لكنها تخفف من وطأته ، لذلك فالفتات يمنحنا الامل ويحفزنا على المضي قدما في طريقنا الى تحويل التجربة المريرة الى فعل خلاّق ..
والحزن الذي يملأ قلبي ولايُفقده الامل ، يعود أحد أسبابه الى ولادة ابنتي بمرض نادر أقعدها .. وما كتابتي عنها وعن مقتطفات من رحلتي معها ، إلاّ لغرض تقديم شيء قد يفيد أمهات مثلي لهن أطفال مرضى لكنهن يحولن أيامهن وأيامهم الى دوامة من الحزن لأنهن قد لايعرفن او يسهون عن البحث عن ملامح الفرح في وجه الألم كي يعطين لأنفسهن ذرائع للبقاء ..
إنّ كثيرا من الحب والطاقة الإيجابية مع قليل من العقلانية والتعامل بواقعية يساعدان في تخطي الصعاب ، وعليه فإن نظرنا الى وجود طفل او عضو في الأسرة مريض او مصاب بإعاقة على أنّه واقع حال لن يتغير إن نحن حولنا حياتنا وحياته الى مأتم مفتوح للبكاء .. نكون قد عرفنا أنّ الأفضل لنا وله التعالي على الألم وعدم إطلاق العنان له لاسيما أمام المريض كي لانزيد من عذاباته ..
إحدى الإمهات لديها طفل مصاب بمرض مزمن ، تقوم كل يوم بالبكاء أمامه وأمام أخوته ، تخيلوا ماذا يصنع هذا البكاء فيه ؟! وثانية تنظر الى طفلها على أنه أقل شأناً من الآخرين ، وثالثة تستسلم لنظرات الشفقة من عيون المجتمع .. هذا المجتمع المعاق في مصطلحاته ، فهو يستخدم مثلاً كلمة (معوق ) بدلا عن (مصاب بإعاقة ) او (ذي احتياجات خاصة ) ..
لهؤلاء الأمهات أكتب ، وأطلب منهن أن يقرأن كلماتي ، لعلي بها أفيد ..
سماء .. هو اسم طفلتي التي منذ نعومة أظفارها حرصت على أن تكون بصحة نفسية جيدة ومعنويات عالية ، فبالرغم من أنها مصابة بمرض ولادي تسبب في جعلها مشلولة وعاجزة عن الجلوس أيضا الى جانب مضاعفات مرضية عديدة لامجال هنا لذكرها ، إلاّ أنّني علمتها أن لاتفكر في كونها عاجزة او أقل من الآخرين القادرين على السير ، حتى أنني أحيانا افتعل الشعور بألم شديد في قدمي بسبب المشي ، كي أخفف من معاناتها . الغاية أنّ لاأحدَ منا كامل ..
منعتها كذلك من أن تصف نفسها بـ (معوق) ، فهذه الكلمة لامحل لها في قواميس حياتنا .. لذا أجدها حين تضطر أحيانا الى محاولة ذكر الكلمة تتراجع عنها مباشرة ، مبتلعة بقية حروف الكلمة . حتى حين تريد التعبير عن ألمها الشديد بذكر نصف الكلمة " معـ .." أقول لها مثلاً : تعنين "معـ .. كرونة " او "معـ .. قولة " .. في محاولة للتحايل وتحويل الكلمة الى أخرى لاتسبب الالم ..
إنّ الغاية من إبعاد بعض المفردات والمصطلحات السلبية عن حياتنا هي كي لايشعر الطفل بأنّه عبء ، ولئلا نجعل من مشاعرنا الحزينة عبئاً إضافياً عليه .. فيكفيه شعوره الداخلي الذي يحاول أن يتغلب عليه إن نحن ساعدناه وشجعناه .. فبلغة القلب والعقل وبلغة الضمير الإنساني والأخلاقي والتربوي ، أقول إنّ من واجبنا أن نجعل الإنسان الذي لديه نقص عضوي يؤمن بأنّ لوجوده معنىً مهماً في حياة الآخرين ، كما هي الحال مع طفلتي التي يعني وجودها في حياتي معنىً لايشبهه آخر، وهي بتكوينها الشخصي بدت منذ نعومة أظفارها تتسم بالقوة والذكاء والإرادة والميول القيادية ، فما كان مني إلاّ أن أدعم سماتها الى درجة إفهامها أنها قادرة على فعل كل شيء .. وكانت تحدث نفسها بصوت عالٍ ، أنها قادرة على التغلب على عجزها وهي تحاول رفع جسدها كي تمشي ، ولولا خوفي على عظامها من التهشم لأنّها هشة وتتعرض للكسر من بين وقت وآخر ، لمامنعتها من تلك المحاولات ..
رحلة ابنتي مع المرض صعبة جدا ، وآلامها شديدة ، وانتكاساتها مستمرة ، وكلما انتكست ورقدت في الفراش قالت لي : ماما أنا انتهيت .. وبعد شفائها أسألها : ألم تقولي إنك انتهيت ِ ؟ فتضحك .. وأضحك ..
حياتنا مليئة بالضحك واللعب وخلق أسباب للمرح والطُرف .. فليس أفضل من جعل حياة طفلك ، التي قد تكون قصيرة بلغة الطب ، عبارة عن رحلة الى عوالم الفرح والامل .. وليس أجمل من ضحكة بريئة ترتسم على شفتيه وسط هذا العالم المليء بالعذابات ..
وتدرك طفلتي سماء قيمة الضحكة الجميلة وتعكسها في لوحاتها التي ترسمها ، كل الوجوه في تلك اللوحات تمتلك شفاه مبتسمة ، حتى الشمس والشجر والأزهار والفراشات .. كلها تبتسم .. فهي ترى الحياة ابتسامة عريضة على شفتي الحلم .. اللتين تتكلمان بالامل .. والاستمرار ..
لايعني كل الكلام الذي تقدم أنّ لدي مناعة كافية ضد الألم او أنني لاأبكي ، بل أنني أجهش بالبكاء بعيدا عن عيون الآخرين وتجلدني سياط العذابات صمتا ، لكنني قررت منذ وقت طويل أن اتعامل مع الأحزان بتعالِ وتحد ٍ ، كذلك أريد توريث هذا الى طفلتي كي تواصل حياتها كأنّ لاشيء ينقصها .
خلاصة القول .. لاتصعبوا حياة أطفالكم المرضى أكثر مما هي .. فإن بكوا شاركوهم البكاء ، ذلك أنّ طاقة الحزن تتبدد نوعا ما عند البكاء ، ولكن في اللحظات الدامعة نفسها عانقوهم واهمسوا في آذانهم أنهم الأقوى وأنهم قادرون على فعل أمور إيجابية في حياتهم ، وأنهم إذا ماحققوا شيئا فذلك يعني أنهم الأفضل منا نحن الذين خلقنا بأعضاء كاملة .. ساعدوهم كي يحيوا اللحظة وكأنهم كاملون .. إعينوهم بالحب على إطلاق مواهبهم وقدراتهم الكامنة .. فلاشيء يحتاجه المريض كي يشفى .. والعاجز كي يقدر .. أكثر من الحب ..
وللسطور والتجربة بقية سأكتب عنها لاحقاً ، بعد أن اتفرغ من جديد للكتابة ، لأنني سانشغل خلال المدة المقبلة بالإشراف على استعدادات طفلتي لإقامة معرض لرسومها وتصميمها الإكسسوارات ، سيكون الحب عنوانه بالتأكيد .