بلال الجيوسي - الأردن - " وكالة أخبار المرأة "
ترى ما الذي يمكن أن يحدث عندما تفكر امرأة – تربّت في حضن أكاديمية اسمها الفلسفة، وكان البحث الاجتماعي شاغلاً رئيساً لها؟ ما الذي يمكن أن يحدث عندما تحاول مثل هذه المرأة المتنوعة فهم بنات جنسها؟ إنها الأكاديمية نجلاء حمادة في كتابها الجديد «عدس وكافيار: سير نساء يعشن في لبنان: بناء الذات ومدى فعاليتها وفرادتها» (الدار العربية للعلوم - ناشرون). الكتاب إذاً هو عن «سَير» بكل ما تعنيه هذه الكلمة من صيرورة في الزمان، وما تثيره من دفء وفردية. وهو أيضاً عن «نساء»، أي أنه يندرج في حقل دراسات المرأة. وهاتيك النساء يعشن في «لبنان»، أي أنه عن حياتهن في مكان بعينه.
لماذا قامت نجلاء حمادة بهذا البحث، وألفت هذا الكتاب؟ تذكر المؤلفة أربعة دواعٍ حفزتها وشجعتها على القيام بهذا العمل:
1-وضع المرأة الملتبس عموماً، والحاجة إلى الإسهام في تبديد هذا الالتباس. وتختار نجلاء حمادة من هذا الالتباس وجهاً بعينه هو التناقض بين الفلسفة والأدب في النظر إلى المرأة. وترى المؤلفة أن النظريات الفلسفية تجحف بحق النساء، «فترسمهن متجانسات سطحيات وضعيفات، بينما يحفل الأدب بهن» مظهراً فرادتهن ومثمناً حضورهن وإحساسهن وقدراتهن على التحمل واجتراح الحلول (ص 9). وفي ظل هذا الشد والجذب بين الفلسفة والأدب تلجأ الباحثة إلى الواقع تستقرئه عن حال المرأة.
2- أما الداعي الثاني فهو منهجي، إذ تلحظ المزالق أو التشوهات أو الإساءات للواقع التي تقع الدراسات الحقلية فيها، في هذا المجال. وتلخص حمادة ضروب القصور هذه في ثلاثة: الاغتراب، أي استخدام قياسات غربية لفهم ثقافة مغايرة، والتباهي غير المبرر على المجتمعات الأخرى، والتظلم والشكوى المبالغة في تصوير الإجحاف في حق النساء نتيجة إسقاط حالات قليلة على واقع عام (ص 13).
3- الداعي الثالث هو الإشادة المعاصرة بسير النساء في صيغها المختلفة بوصفها الأكثر تجديداً وابتكاراً بين كل ما يكتب في الأدب الحديث (ص 14).
4- أما الداعي الرابع فهو كون لبنان وفق ما يذهب إليه وجيه كوثراني «يعاني نقصاً معرفياً وضعفاً مؤسسياً في مجال التاريخ الشفوي». (ص 14).
يقع بحث حمادة في إطار دراسات التأريخ الشفوي الذي يندرج في إطار البحث النوعي. وقد استخدمت الباحثة المقابلة الشخصية للاستماع إلى ذكريات مفحوصاتها عن خبراتهن السابقة في صورة تداع مقيد بأسئلة استبيان شفوي من دون مصادرة فرص تعبير هاتيك المفحوصات التلقائي، استدراكاً أو استطراداً، أو التدخل بحساسية لحثهن على تذكر أبعد أو أوسع أو أعمق. وإن كان أسلوب المقابلة الشخصية مستوحى عموماً من المقابلات الإكلينكية في التحليل النفسي، ويمارس بصورة مقيدة تماماً في بعض البحوث الاجتماعية، إلا أن الباحثة لم تأخذ تماماً موقف الحياد الذي يمكن أن يتخذه محلل نفسي أو باحث اجتماعي حقلي، وإنما حاولت أن تبث في مقابلاتها دفئاً وتعاطفاً إنسانياً، وكذلك تفاعلاً تواصلياً مع المفحوصات. وبالإضافة إلى هذا كله فقد سعت الباحثة إلى الحصول على معلومات خارجية على سبيل زيادة التحقق أو الاستكمال أو الترميم. أما ما الذي أغرى حمادة على اختيار التأريخ الشفوي من خلال المقابلة الشخصية، فهي توضحه كالآتي: أ- على رغم ما يعتور التاريخ الشفوي من ثغرات تتصل بالتذكر، فإن طراوته – بسبب حداثته- وقدرته على «فضح تضليل المعرفة المتداولة وافتراءاتها»، تجعلانه مصدراً معرفياً غنياً قادراً على ملء ثغرات المصادر التقليدية، ب- فاعلية التاريخ الشفوي سياسياً واجتماعياً، مثل قدرته على إجراء مصالحات بين معتدين ومعتدى عليهم، ج- التاريخ الشفوي مجال لتعبير المهمشين عن أنفسهم، د- في التاريخ الشفوي تكمل الروايات بعضها بعضاً بعفوية .
لم تخيّب المفحوصات الباحثة، إذ وجدت كما تقول تجاوباً كثيراً منهن، بل وتبين أن كثيرات رغبن في البوح بحقائقهن وحتى بأسرارهن (ص: 18). إلا أننا نعرف أن ما من أحد على استعداد للبوح بكل تفاصيل سيرته الذاتية، لأن فيها ما يمكن أن يسيء لصورته أو صور آخرين، ناهيك أن هذه التفاصيل قد لا تكون ضرورية لأغراض الباحث. لذلك رأينا نجلاء تمارس ما يمكن تسميته بـ «الخفر المنهجي»، فلا هي أحرجت مفحوصة، ولا أفشت سراً. لذلك تجد عملها نظيفاً ينشد حقائق لا فضائح، ويحترم خصوصية بطلاته، فلا يقترب من مواطن حميمة.
ولما كان بحث حمادة نوعياً، فالغالب أن تكون عينتها غير احتمالية ولا عشوائية، وفي هذه الحالة لا تكون العينة ممثلة إحصائياً للمجتمع الأصلي الذي استلت منه. وإنما سيأتي هذا التمثيل عن طريق نوعي أيضاً. عينة نجلاء مقصودة، متجانسة ومتغايرة في الوقت ذاته، وهي أتت من المصادر الآتية: نساء عرفتهن شخصياً، نساء عرفت إليهن نساء أخريات من خارج العينة، نساء عرفتها إليهن نساء أخريات من داخل العينة. وقد اجتهدت حمادة في اختيارها نساء عيناتها أن يكنّ من مناطق متنوعة في لبنان، بل ويمثلن طوائف مختلفة أيضاً.
تتألف العينة من 30 امرأة متجانسات في كونهن عشن في لبنان في النصف الثاني من القرن العشرين ومطالع القرن الذي يليه، عاديات ولسن مرموقات ضجت وسائل الإعلام بأسمائهن وإنجازاتهن، من دون أن يعني هذا أنهن كليلات لم يتمكن من تحقيق شيء ذي مغزى. وخارج هذا التوصيف المتجانس، فإن سماتهن وظروفهن متغايرة.
إلا أن العينة الحقيقية – من وجهة نظري – هي ما أدلت به نساء نجلاء من تقارير عن حياتهن، والتي – إذا جمعتها معاً- فإنها تبلغ آلاف التفاصيل الواقعية التي سوف توفر مشهداً عريضاً وممثلاً للغاية أنى منه تمثيل المناهج الإحصائية الكمية.
تعنون نجلاء حمادة فصول كتابها بأسماء بطلاتها – على نحو يُذكِّر، مع اختلاف السياق والهدف، بمرايا نجيب محفوظ. ولا يملك المرء أن يقاوم فكرة أنه لو أمسك محفوظ بنساء نجلاء، وربط بينهن بخياله الروائي الخصب لكنا أمام مرايا لبنانية أيضاً، ومعظم الأسماء حقيقية، إلا بعضها ممن تمنّعت صاحباتها عن ذكرها. في الكتاب ثلاثون حكاية، ولكن في كل حكاية ثروة تفاصيل عن أمور مختلفة. والمتأمل لنساء نجلاء يكتشف وسط فرديتهن أنماطاً أو نماذج، وهو جُلّ ما يسعى إليه باحث في العلوم الإنسانية.
إن إحدى طرق قراءة هذا الكتاب، هو أن تأخذ عناصر الاستبيان الشفوي – كما تكشف عنها استجابات المفحوصات – وتتابعها من امرأة إلى أخرى. ويمكنك أيضاً أن تتابع نساء نجلاء من خلال أحد محاورها الرئيسة الثلاثة، فتنظر كيف بنت كل واحدة منهن ذاتها، أو كيف تجلت مدى فاعليتها أو فرادتها. وتحيل نجلاء القارئ إلى خاتمة الكتاب التي رتبت فيها قطع أحجيتها على نحو يكشف عن أنماط أو نماذج عامة.
سأضرب مثلاً أكثر تشخيصاً على قراءة في هذا النوع؛ كأن نتتبّع موقف المرأة من ذاتها جندرياً. فما هي اتجاهات المرأة نحو ذاتها بوصفها امرأة؟ بطبيعة الحال، لن تخترع المرأة هذا الموقف من عدم، وإنما ستأخذه في سياقات اجتماعية راهنة، وهذا يعني أننا نستطيع استنباط ما هو عام نسبياً من جملة اتجاهات البطلات. لننظر مثلاً إلى السيرة الأولى من الكتاب: سيرة زهرة. سنراها تقول «إن «الدنيا خربت» عندما أصبحت النساء يتعلمن ويتوظفن فلم يعدن يطعن أزواجهن وغدون يتخلين عنهم بسبب نزوة عابرة أو عند أقل هفوة... (ص 25) بل إن هذا الموقف يعمّ أفراداً من عائلة زهرة، مثل شقيقاتها» فجميعهن لا يتقبلن النقاش في اعتبار تمكين المرأة مادياً، مضراً لها ومقوضاً لاستمرارية الأسرة» (ص: 26). وتصدر «جوهانا» صاحبة السيرة الثانية في الكتاب عن موقف مشابه ولو بطريقة أخرى. إذ ينبغي أن يبقى الرجل أمام المجتمع هو السيد المتفوق الناجح، برغم أنه قد لا يكون – في الواقع- كذلك، وعلى المرأة أن تتوارى في الظل حتى لو كانت هي التي صنعت النجاح. لقد «بقيت جوهانا تزكي زوجها أمام الناس وتزين صورته في نظرهم، فتصوره على أنه رجل ناجح وزوج صالح، بل إنها قبلت بأن تكون أملاك العائلة ومقدراتها كلها باسمه، على رغم أنها كانت هي فعلياً عماد عمل العائلة وأساس نجاحها العملي ونظرة المجتمع الإيجابية لها (ص 34).
وختاماً، كتاب الأكاديمية نجلاء حمادة غني وممتع يلبي حاجات مروحة واسعة من القراء والمهتمين. فإذا كنت مشغوفاً بالحكايات فستجدها فيه، وإن كنت مهتماً بأحوال المرأة، فالكتاب عنها، وإذا كنت باحثاً اجتماعياً فالكتاب هو تقرير موسع عن بحث اجتماعي، وإذا كنت طالباً في الدراسات العليا، فهو معين ثر لأفكار تصلح موضوعاً لبحثك. وإذا كانت نجلاء حمادة قد أطلقت على كتابها اسم «عدس وكافيار» لأنه يغطي طيفاً اجتماعياً واسعاً ومتنوعاً، فإني أستطيع أن أقول أن الكتاب يتضمن طعم العدس اللذيذ والكافيار الفاخر.