هل الروح تسكن الجسد فقط ؟ إن كانت تسكن الجسد فحين تُلبى إحتياجاتنا الجسدية لابد أن نشعر بالرضى، ولكن الإنسان لايشعر بالرضى بمجرد تلبية إحتياجاته الجسدية، بل حين تُشبع هذه الإحتياجات تبدو روحه بحالة من البحث الدائم عن شيء آخر، شيء ما تعرفه ولكنها لا تستطيع الإفصاح عنه، فالروح لا كلمات لها ولكنها تتقمص كل الكلمات، ولا صوت لها ولكنها تسيطر على كل الأصوات، فلماذا تبدو بحالة البحث الدائم؟ لماذا لا تُشبعها الحاجات المادية؟ ولماذا حتى من بلغوا الثراء والشهرة تبدو أرواحهم مُتعبة حزينة إلى درجة الإنتحار!
وإن كانت الروح تسكن الجسد فقط فهي تتحرك بحركته، وتنتعش بحيويته فلماذا حتى حين يكون الإنسان بأوج نشاطه يمكن أن يتوقف للحظات ويشعر بأن هناك شيء ما مخنوق في صدره وأن هناك كلمات يبحث عنها ليعبر عن شعوره فلا يجدها، يتابع حيويته الجسدية ويتجاهل نظرات الروح الشاردة إلى مكانٍ آخر؟
وإن كانت الروح تسكن الجسد فقط، فلماذا تحب الشعر، ولماذا تحلق بعيداً مع الأنغام الموسيقية؟ ولماذا تغضب لما لا يتعلق بها أو تفرح لسعادة غريب أو عابر سبيل.
لأنها تسكن في كل حواسنا، وأفكارنا ومشاعرنا، وحين نقلصها بمساحة الجسد نخنقها، وحين نمنحها الرقي والرفعة اللائقة بها نمنحها أجمل ما حولنا ونتحاور معها بأرقى مصطلحاتنا. ولكن من منا يحيا بلا روحه ومن منا يحيا بروحه؟
جميعنا نحيا بروح الجسد لأنها سبب بقاءه على قيد الحياة، وهي التي تؤكد له وبكل يوم بأنه لا يزال حي، حتى ولو تعطل عضو من أعضاء الجسد تبقى الروح حية نابضة ولا تغادر إلى حين يأتي موعد مفارقة الحياة، لذا هي فعلاً المؤشر المحسوس وغير المحسوس لكوننا على قيد الحياة، ولكن هل هذه فقط مهمة الروح أن تكون الدليل على نبض حياة الجسد!
ولكن ماذا لو ماتت روح المشاعر أو الأفكار، العقل أو القلب أي حياة يحيا الإنسان، يحيا حياة الجسد مجرداً من متعة حياة الوجود كله، تقتصر علاقته بروحه برابطة الجسد وتنقطع الروابط الأخرى، فتبدو روحه باهتة شاحبة حتى أن بريق عينيه ينطفيء، وذلك لأن الروح لم تُخلق لتكون المؤشر على وجود حياة الجسد، بل هي حياة لكل جزء من وجود الإنسان.
وحين نحصر وجودنا بعلاقة الجسد والروح ونتناسى وربما نجهل، أو قد لا نستطيع تأسيس علاقة أخرى مع الفكر والعقل والقلب فهنا يتحول الجسد إلا عبء على الروح، تحاول وبكل الطرق أن تحيا وفي كل يوم يثقل وبتعب لأنها فقدت دورها النوري الشفاف وحصرها الجسد بأن تكون مجرد علامة على الحياة.
ولا يمكن للروح أن تُشرق بأنواها على النفس دون الإيمان الصادق بخالق هذا الكون، ودون التجرد ولو لدقائق في كل يوم بعيداً عن ماديات الوجود وبعيداً عن حاجات الجسد، فالروح لا يُشبعها الطعام، ولا تُسعدها الشهوات، بل هي نور شفاف لا يُشرق إلا على من تجرد من ماديات الحياة حتى بإدراك أن جسده ليس سوى وسيلته للبقاء على قيد الحياة وأن الروح فقط هي التي تقوده إلى عوالم لا فناء لها. وإن لم يكن الإيمان هو من يُنير النفس فتأتي الأخلاق بالمرتبة الثانية لأن الأخلاق حتى بالنسبة لغير المؤمن هي نور أرضي وإن لم يكن سماوي يرشد إلى الطريق الصواب ويمنح من يتمتع بالخلق الرفيع من حوله رفاهية العيش برقي وإستقامة.
أما حين تنسح أنوار الإيمان من النفس، ونور الأخلاق من السلوك، تحتجب الروح في مكانٍ قصي من النفس حتى أنه لا يمكن رؤيتها، تختار مكانٍ مظلماً صامتاً كي لا ترى ولا تسمع وتترك صاحبها يخوض حياةً ظلامية يعاني منها هو ثم يعاني منها من حوله فإينما حل تلاحقه تلك الهالة المظلمة والتي لا يمكن التعبير عنها بالكلمات سوى أنها حالة من إنسحاب الروح وإنزوائها، حالة من حزن الروح ورثائها، حالة من غربتها في نفسٍ غاضبة حاقدة بعيدة عن الإيمان وتمقت الأخلاق، فلا يتبقى سوى جسد يلهث لتلبية حاجاته البشرية وكلما طال بحثه وركضه خلفها كلما زاد تعبه وشعوره بعدم الإكتفاء، لأنه وببساطة لا يمكن أن يشعر أي منا بالإكتفاء النفسي وحتى الجسدي والفكر سوى بالإنسجام مع روح علمت وأدركت أنها تحيا بجسد يؤمن ويحب ويحترم ويتألم لمعاناة غيره. لذلك قالت الكاتب الإنجليزية هذه الجملة الأدبية القديمة:" لا أستطيع أن أحيا بلا روحي" ربما تكون روحها الشخص الذي أحبته، وربما تكون الإيمان وربما تكون أشياء أخرى ولكنها وبالتأكيد شيء جميل لا تتخيل حياتها بدونه. فأين روح كل منا؟ هل تقبع صامتة ومُعتمة وتراقب الوجود بوجل؟ أم أنها آمنة مطمئنة تشرق على الوجود بأنوارها وتمنح الدفء أينما حلت وإرتحلت؟