من بين المشاريع الوطنية التي حظيت بعناية خاصة في المغرب في السنين الأخيرة، على رقعة سوسيولوجية وسياسية ودينية واسعة،هناك مشروع المناصفة وحقوق النساء .من المؤكد أن هذا المشروع الطموح يزكي كل نضال المنظمات وجمعيات المجتمع المدني المغربي المدافعة عن حقوق النساء منذ مدة طويلة .ومن الأكيد أيضا أن كل المكتسبات المحققة لحد الآن في هذا المجال الحيوي، تستحق التنويه والتضامن،وقد كانت نتيجة موضوعية لهذا النضال نفسه،ونتيجة لهذه الصيرورة الاجتماعية القوية التي يعيشها المغرب في مجال حقوق الانسان بصفة عامة،وفي مجال سياسة مقاربة النوع منذ اقرار دستور فاتح يوليوز 2011 بصفة خاصة.ومما لا شك فيه أيضا،أن ذلك يعتبر نتيجة منطقية لمجمل الالتزامات الدولية التي وقع عليها المغرب في مجالات ذات علاقة مباشرة بهذا الموضوع .وبالفعل،وبعد مسارات تشريعية معقدة ومشحونة بأشكال مختلفة من السجال السياسي والإيديولوجي بين المهتمين عن قرب بهذا الموضوع،تم اقرار القانون رقم 14-79 المتعلق بإحداث هيئة المناصفة ومكافحة كل أشكال التمييز.ورغم أن نص القانون يتحدث عن محاربة اشكال التمييز والمساواة بمفهومها الواسع (المادة 2 في الباب الثاني من القانون )الذي ينخرط فيه المتضررون من العنصرية والمتضررون من الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة،فان هذا القانون في الحقيقة موجه بصفة خاصة جدا لمحاربة التمييز ضد المرأة.
وفي شرح هذا التوجه الحقوقي،جاء في مذكرة للمجلس الوطني لحقوق الانسان حول الهيئة المشار اليها ما يلي :
2.9" من منظور سوسيولوجي،يكتسي اعتبار الوقائع التاريخية والبنيوية للتمييز ضد النساء اهمية قصوى لأنها تحدد الطريقة التي توجه عمل السلطات العمومية في ارساء هيئة المناصفة ومكافحة كل أشكال التمييز.بيد ان التمييز الموجه ضد النساء،يعرف قبولا اجتماعيا واسعا،وهو غالبا ما يبرر معنويا وأخلاقيا،مقارنة بالتمييز الذي يطال فئات اجتماعية أخرى
3.9 ولكونها لا تشكل فئة اجتماعية(يشكل الجنس العنصر اللازم للشخصية الانسانية)،فان النساء،نصف المجتمع،يتعرضن لأنواع عدة من التمييز بسبب الجنس،والذي تزداد خطورته عندما يكون مقرونا بأسباب أخرى للتمييز المحظورة دستوريا وخاصة بسبب الاعاقة و/أو الظروف الشخصية. وبمعنى آخر فان التمتع بالحقوق غالبا ما يؤثر فيه كون النساء يشكلن عناصر من مجموعات مطبوعة بأسباب متعددة للتمييز.
4.9 ان الرهانات المركزية لإشكالية مساواة النوع في المغرب خلال مرحلة الانتقال الديمقراطي هذه،تبرر اختيار نموذج مؤسساتي ذو انتداب حصري (مناهضة التمييز بسبب الجنس).وسيساهم ارساء مؤسسة مستقلة تعنى بالنهوض بالمناصفة،ومحاربة كافة أشكال التمييز ضد النساء بشكل جلي، في تدعيم وتوسيع المكتسبات الديمقراطية والحداثية للسنوات الأخيرة."
http://cndh.ma/sites/default/files/hyy_lmnsf-_mdhkr.pdf
ويقدم المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي من جانبه،في اطار الاضطلاع باختصاصاته،ملاحظات مهمة جدا من بينها:
"يستعيد مشروع القانون في عنوانه التسمية الواردة في الفصل 19 من الدستور الذي ينص على إنشاء "هيئة المناصفة ومكافحة كل أشكال التمييز"، غير أنه لا يحدِّد من هي الفئات التي يشملها نطاق تطبيق هذا القانون ،النساء أم النساء والرجال، أم أي شخص أو ظروفه الشخصية؟ ومع ذلك توجد إشارة دالّة في هذا الصدد في المادة 2 من مشروع القانون التي تنص على أن هيئة المناصفة ومكافحة كل أشكال التمييز يمكن أن تتلقى "الشكايات بشأن حالات التمييز التي يرفعها إلى الهيئة كل شخص يعتبر نفسه ضحية حالة من هذه الحالات". والحال أن مشروع القانون لا يتضمَّن أي مقتضى قد يُفهم منه أن هيئة المناصفة ومكافحة كل أشكال التمييز ستختصُّ في حماية حقوق النساء ومحاربة كل أشكال التمييز ضدهن. صحيح أن المادة 2 (الفقرة السادسة) من مشروع القانون، تحيل إلى اتفاقية القضاء على كل أشكال التمييز ضد النساء ،كمرجع معياري يمكن لهيئة المناصفة ومكافحة كل أشكال التمييز أن توجه انطلاقا منه توصيات من أجل ملائمة التشريع الوطني مع مقتضياته."
http://www.cese.ma/ar/Pages/Saisines/s-20-2016-apald.aspx
من الواضح في ملاحظات المجلس الوطني لحقوق الانسان،كما هو الشأن كذلك في ملاحظات المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي،أن قانون احداث هذه الهيئة جاء في الحقيقة في سبيل تحقيق المناصفة بين الرجال والنساء أو بين الذكور والإناث،رغم أن هذه الهيئة،كما يدل على ذلك اسمها،هيئة تختص في كافة أشكال التمييز كيفما كان نوعها.وذلك على أساس أن حماية حقوق النساء يعتبر الوعاء السوسيولوجي المرجعي لحماية حقوق كل الناس الذين يعانون من اقصاء أو تمييز أو حيف يلحق بهم،كيفما كان نوعه.
لنكن واضحين مع أنفسنا: لا يمكن أن تتحقق اي مناصفة كيفما كانت مرجعيتها دينية أم وضعية،اذا لم تكن اقرارا ملموسا على أرض الواقع لمساواة كاملة بين الرجال والنساء.ماذا يعني ذلك ؟
ما يهمني في تعليقي على هذه الهيئة، هو بالضبط اعتبارها خطوة تشريعية لاحتواء ظاهرة اجتماعية معقدة، هي ظاهرة التمييز السوسيولوجي الذي تتعرض له النساء في المجتمع المغربي.وفي هذا الاطار بالذات،أود أن أطرح بعض الأفكار والتصورات الشخصية حول الموضوع.تاركا مهمة التعليق القانوني على هذا المشروع الطموح للفاعلين السياسيين والحقوقيين وفقهاء القانون.
أنا لا أتحدث عن المناصفة كحقيقة سوسيولوجية تنتظرنا في أول محطة من محطات تاريخنا ومستقبلنا المنشود،لتستقبلنا استقبال الفاتحين المنتشين بانجازهم الملحمي العظيم،بل أعني بها مشروعا اجتماعيا وثقافيا وسياسيا واقتصاديا عسيرا يتم تفعيله بناء على خطة وطنية على نطاق واسع وأمد طويل لا يعرف أجله.وفي هذا السياق بالضبط،يمكن لنا أن نزكي وندعم احداث "هيئة المناصفة ومحاربة كل أشكال التمييز "،كما نحيي في نفس الاطار كل اللذين واللواتي ناضلوا وناضلن من اجل هذا الأفق المدني المتحضر،سواء على مستوى الدولة والأحزاب السياسية،أو على مستوى المنظمات والجمعيات النسائية والحقوقية بصفة خاصة،وعلى مستوى الحقلين الثقافي والمدني والاجتماعي بصفة عامة،سواء كمؤسسات أو كأفراد أصحاب مبادرات شخصية.وأنا أعرف أن هناك رجالا ونساء اشتغلوا واشتغلن بقوة ومنذ مدة طويلة،بشكل من الأشكال لصالح اقرار المناصفة بين الرجال والنساء.
أنا أعتبر أن موضوع المناصفة في المغرب يندرج في نطاق المواضيع الحساسة والأكثر اثارة للنزاع الاجتماعي والسياسي في هذا البلد.انه يمثل أحد الملفات الثقيلة على كاهل المجتمع، في اطار مطلب التغيير الشامل،بالنظر على الأقل لعاملين جوهريين :
أولا- لأنه يرتهن بالمرجعية الدينية للمجتمع المغربي.وعلى هذا الصعيد،يمكن الحديث عن صيرورة تاريخية معقدة الى حد كبير.
ثانيا-لأن اقرار المناصفة من عدمه،وبالتالي اقرارها العميق أو اقرارها السطحي والعابر، يرتهن بطبيعة اللاشعور الجماعي للمجتمع المغربي.وعلى هذا الصعيد،فمن العبث والوهم أن نتحدث عن صيرورة تاريخية أقل تعقيدا من الأولى.
في المستوى الأول،يقتضي الأمر مخاضا ثقافيا وسوسيولوجيا وسياسيا قويا في اطار ارادة سياسية وسوسيولوجية مشتركة، قصد تفعيل مسطرة اجتهادية عسيرة تحتاج الى سياسة دينية تتبنى رهان التحديث و التجديد الديني على أوسع نطاق.وباستقرائنا للثوابت العقائدية للدولة والمجتمع على حد سواء،يمكن القول أن تحقيق تسويات حقيقية وصلبة بين الفاعلين السياسيين والاجتماعيين في هذا الموضوع،امر مؤجل على المدى القريب،ان لم أقل على المدى الطويل جدا.
في المستوى الثاني،لا يقل الأمر تعقيدا لأنه يرتبط بسيكولوجيات اجتماعية،تختفي ورائها مصالح وامتيازات مؤسساتية وفردية وشخصية وجماعية، تلبس سوسيولوجيا أقنعة مختلفة الألوان والأحجام ولا يبدو على مستوى المعتقدات الثقافية السائدة،المعلنة والمستبطنة،أنها مستعدة للاستجابة لنداءات التغيير.
يتطلب اقرار المناصفة،أو على الأقل تخطيط مسار مغربي ايجابي للسير نحوها،تسويات من جميع الأصناف والأشكال،كما يتطلب تضحيات سوسيولوجية لا حصر لها من قبل المجتمع المغربي.ولكنه يتطلب أيضا اخراج هذا المطلب من خانة الأمور المستعصية والمزعجة والمتروكة لوصفات علاجية قد يجود بها الزمن،الى خانة الأمور التي تستحق نقاشا اجتماعيا عموميا على نطاق واسع،دون مزايدات وحسابات ظرفية أو شخصية أو مؤسساتية. وبعبارات أدق،فالأمر يتطلب الدفع بقضية المناصفة في اتجاه القضايا الدنيوية التي ننكب على معالجتها بحكمة ورصانة وموضوعية،انصاتا منا لديناميكية اجتماعية سريعة الحركة،ولا تنفك تستفزنا وتقلقنا بأسئلة محرجة ومستعجلة،تضغط علينا من أجل السعي الى ايجاد سيناريوهات ممكنة لحلها، أو على الأقل المساهمة في التخفيف من أضرارها وكوارثها الاجتماعية الفظيعة.
تطرح قضية المناصفة بقوة قضية المواطنة نفسها.وتستلزم محاربة المواطنة غير المتكافئة بين الرجل والمرأة،جهادا نفسيا وفرديا،لا فقط شعارات جميلة نزين بها نرجسيتنا وصورنا في الحقل الاجتماعي،أو في الفضاء الحقوقي، أو في قلب المؤسسات السياسية كالأحزاب والبرلمان، دون أن ننسى الادارة. ومن الأكيد أن محاربة هذه الظاهرة،لا يجب أن تشتغل فقط لصالح تزيين صورة المغرب أمام المحافل الدولية والمنظمات العالمية التي تراقب ما نقوم به في هذا المجال.
لكي نحارب المؤشرات الفعلية اتي تعرقل اقرار المناصفة،علينا ان نحارب النفاق الاجتماعي الواسع النطاق الذي يحوم حول خطاباتنا المخادعة حول المرأة.ولا شك أننا اذا حاولنا أن نطلع على آراء المغاربة حول المناصفة وحقوق النساء،سيبدو لنا المشهد محققا لإجماع مطلق قل نظيره في الدفاع عن المرأة.وهكذا سيبدو لنا الجميع متفقا على هذه الشعارات،سواء أولائك الذين ينهلون مبادئهم وأفكارهم حول هذا الموضوع،من معين الحداثة والقيم الكونية المتعارف عليها عالميا،أو أولائك الذين يتكئون بشكل كامل أونسبي على المرجعية الدينية والثقافية التقليدية. انه مشهد سوسيولوجي سريالي ولا يجسد اطلاقا المواقف الحقيقية للمجتمع المغربي.وهذا ما أسميه بالخطابات المخادعة.
والأدهى أن سيادة أشكال اجتماعية عديدة لظاهرة التمييز بين الرجل والمرأة،لا يتطلب منا فقط محاربتها كمؤشر سوسيولوجي على مواطنة غير متكافئة،بل كذلك،محاربتها على أساس انها تجسيد لظاهرة أكثر حيفا وأكثر اقصاء،هي الفردانية غير المتكافئة.ماذا يعني ذلك ؟
تعني المواطنة غير المتكافئة في هذا السياق الدقيق، وجود مواطنات لا يتمتعن بحقوق متساوية في الحقل الاجتماعي كفضاء عمومي لممارسة الحقوق الاجتماعية والسياسية والاقتصادية،باعتبارنا رجالا ونساء،ننتمي الى مجموعات اجتماعية مشتركة تنبني على تعاقدات معينة،لنا فيها حقوق مكتسبة ولنا فيها واجبات مكتسبة بصفة المواطنة تلك.بناء على ذلك،تكون المرأة في هذه الحالة،كضحية مفترضة لأشكال معينة من التمييز على هذا الأساس مواطنة مهضومة حقوق اجتماعية،كما هو الشأن بوضعيتها داخل مؤسسة الأسرة،ومهضومة حقوق اقتصادية كما هو الشأن في سوق العمل والإنتاج والحصول على دخل مادي قار ومستقل،ومهضومة حقوق سياسية كما هو الشأن بالنسبة لوضعيتها الهشة والصورية في الحقل السياسي والمؤسسات السياسية..
وتعني الفردانية غير المتكافئة في هذا السياق نفسه،وجود نساء لا يتمتعن بفردانيتهن كاملة،بمعنى أنهن لا يتمتعن بذواتهن كشخصية مستقلة وحرة وغير خاضعة لوصاية معينة كيفما كان نوعها.
تعني المواطنة كما أفهما،سلامة التدبير الجماعي للحقوق المشتركة على قاعدة تعاقدية.وتعني الفردانية،حرية التدبير الذاتي لحياة وشؤون الذات.وهناك فرق جوهري بين الحقلين.ان الحقوق في المستوى الأول من الكينونة الاجتماعية،تتعلق بالحقوق والواجبات الجماعية،في حين انها في المستوى الثاني،تخصنا كذوات لنا حق التصرف في أنفسنا .
ومن الواضح أن الاعتراف الحقيقي بالمناصفة لا يتوقف عند الاعتراف بالمرأة كمواطنة كاملة الحقوق كما هو الحال بالنسبة للرجل، بل أيضا الاعتراف بها كفرد يتمتع بحرية الاختيار والتفكير والتصرف وغير ذلك من الحقوق الفردية المتعارف عليها في المنظومة الدولية لحقوق الانسان.وعلى هذا المستوى بالضبط،تجري المعركة الأصعب. فإذا كان اقرار المناصفة أمرا عسيرا باعتبارها حقا من حقوق المواطنة،فان اقرارها بالمعنى الثاني،أي كحق من حقوق الفردانية،أعسر واشد قسوة.
من اللازم اذن،في ضوء هذه الفرضية،أن نتحدث عن المناصفة في سياقين: تعني في السياق الأول تمتع النساء بحقوقهن الجماعية كاملة كما يتمتع بها الرجال.وتعني في السياق الثاني تمتع النساء بحقوقهن الذاتية،تتحول المرأة بعد ذلك الى شخصية اجتماعية مستقلة تماما ومتمتعة بجميع الحريات الفردية التي نعرفها،لا كناقصة عقل ودين تستحق وصاية مطلقة.
هنا بالضبط يجري النزاع الحقيقي بين أصحاب التصور المتفتح وأصحاب التصور المحافظ للمناصفة وحقوق النساء.فمن السهل جدا أن يحصل الوفاق وتتحقق التسوية بينهما حول المناصفة وحقوق المرأة كمواطنة، ومن الصعب جدا وربما من المستحيل،أن تتحقق هذه التسوية فيما يتعلق بحقوق النساء كحقوق تخص ذواتا فردية متميزة..
لا يمكن أن نفهم جيدا ذلك النزاع الحاد بين توجهين متباينين أو متناقضين حول المناصفة وحقوق النساء إلا في السياق الثاني للموضوع.ولا يمكن أن نفهم كذلك تلك الضجة الكبيرة التي يعرفها المجتمع المغربي حين يطرح موضوع الاجهاض أو التربية الجنسية أو موضوع الأمهات العازبات،أو موضوع الارث إلا في هذا السياق الحرج للموضوع.
هل لنا أن نتذكر تلك العاصفة الاجتماعية التي عاشها المجتمع المغربي في سنوات التسعين،حين تجرأ وزير ومثقف مغربي شجاع ومتنور اسمه سعيد السعدي على طرح مشروع سمي "خطة ادماج المرأة في التنمية".فهل كان الخلاف في نظركم يخص فقط كيفيات ولوج المرأة الى المهن وعالم الانتاج الاجتماعي والاقتصادي، فلو كان هذا هو أصل الخلاف،لما وقع النزاع أصلا بتلك الحدة على أوسع نطاق .ولما انقسم الشارع المغربي في ذلك الوقت الى شارعين مطلبيين متناحرين: شارع مسيرة الرباط وشارع مسيرة الدار البيضاء؟
وكيف يمكن لنا أن نتصور موقف الفقهاء وأصحاب الموقف المحافظ أو المتشدد،من العمل المدني الرائد الذي اضطلعت به مناضلة حقوقية متميزة منذ سنين طويلة، اسمها عائشة الشنا،في تضامنها المطلق مع قضايا الأمهات العازبات؟.أنا لا أتصور تضامن هذه السيدة المحترمة مع هذه الضحايا،وهذا تقديري الشخصي للموضوع، إلا من زاوية دفاعها عن حقوق النساء باعتبارهن يستحقن التمتع بشخصية مستقلة ،بعد أن تم المساس بحقوقهن الذاتية من طرف المؤسسات الاجتماعية السائدة وعلى رأسها مؤسسة الأسرة،ومن طرف الرجل الذي غدر بكرامتهن واختفى عن الأنظار.ولعل هذا يجسد قمة التمييز بين الرجال والنساء.وليس إلا في هذا السياق بالتحديد،ينبغي علينا أن نبحث عن شروط موضوعية للمناصفة،بمعنى أن نبحث في كيفية الحد من ديماغوجيا وتلاعبات الثقافة الذكورية بالموضوع.
لكننا لا يجب ان ننسى أنه حتى كثير من أصحاب المواقف الحداثية لم يرقوا بعد الى مستوى من الوعي يسمح لهم بقبول حقيقي للمناصفة في شقها الفرداني.ولا يمكن أن تغرينا الشعارات المزركشة التي يتغنون بها ويزينون بها مواقعهم وحبهم المريض لذواتهم بنرجسية زائدة عن الحد.وكثير من الحداثيين يقومون بسلوكيات مشينة ومناهضة للمناصفة داخل الأسرة أو في الادارة أو في المعمل،أو في الحزب،أو حتى في الشارع العام،حين ينساقون وراء لا شعور عميق ينظرون من خلاله الى المرأة كسلعة أو موضوع نزوة مرتقبة.
سأقول كلاما مقتضبا ودقيقا في البحث عن شروط المناصفة: لا مناصفة بدون مساواة فعلية تجري بشكل ملموس في قلب الحقل الاجتماع.والمساواة كما أتصورها في هذا السياق الدقيق، تتميز بالشمولية وغير قابلة لاقتطاع صفة من صفاتها،كيفما كانت المبررات التي يمكن أن نتحجج بها،باسم تقاليد أو خصوصية حضارية أو باسم نصوص نعتبرها غير قابلة للمراجعة.وبعبارة أخرى،فنحن لن نحارب بصفة كلية أشكال التمييز التي تلحق بالنساء، ما دام تصورنا للمساواة تصورا ناقصا.وأنا بهذا الكلام، أتحدث من قلب صيرورة تاريخية معقدة،لا من أعلى برج حالم بغد مشرق وقادم لا محالة.
وللذين يتحججون برفضهم أو تحفظهم على المناصفة،بأسباب دينية أو أخلاقية أو ثقافية،خوفا من فتنة أخلاقية وفساد في القيم والأعراف المحفوظة على حد زعمهم وتصريحهم،بوسعي ان أؤكد لهم أن الايمان غير المشروط بحقوق النساء،لا يعني الفجور والانحراف،بل يعني فقط موقفا متحضرا وعقلانيا من المرأة كانسان كامل الأهلية ،وبالتالي موقفا عقلانيا من الحاضر الذي يستفزنا ويطالبنا بإيجاد أجوبة عملية ونافعة لمعضلات اجتماعية لا حد لها ،وهي تقلق اليوم طمأنينتنا ومواطنتنا.أما معاداة المناصفة بهذا المعنى، فلا يمكن أن تكون سوى تبريرا ايديولوجيا مرفوضا لأوضاع اجتماعية غير متساوية،تخفي مصالح وسلطات الفئات الاجتماعية التي تدافع عن هذا الموقف العدائي. وأنا في هذا السياق اتحدث عن المناصفة كمشروع وطني يكون تجسيدا موضوعيا وحكيما لتسويات اجتماعية لا بد أن نبحث عنها،لاعن قرارات ارتجالية وانفعالية غير مضمونة العواقب.ان الايمان بالمناصفة في تقديري وتصوري الشخصي، يعني اقرار العدل والعدالة الاجتماعية وهي بمعايير اليوم ،شرط جوهري من شروط التنمية والتحضر.وبإمكاني ان أقول بوضوح لا تنمية ولا تحضر في ظل أوضاع اجتماعية،يسود فيها الذكور،وتهان فيها النساء.
يتطلب اقرار المناصفة أن نحارب أشكال التمييز التي تلحق بالنساء في برامجنا التربوية وبعض كتبنا ومرجعياتنا الدينية وفي مقرراتنا الدراسية،كما يقتضي ايضا محاربتها في وسائل الاعلام والاتصال،علاوة على محاربة التأثير السيئ لبعض الطابوهات والتقاليد التي ترسخت في أعماق لا شعورنا المشترك،قادمة الينا من قلب ذلك التراث الثقافي والديني الشعبي الذي ورثناه كمغاربة أو كمسلمين عن أجدادنا وأسلافنا،وهو ممتلئ بصور وأكليشيهات نمطية لا حد لها في تبخيس المرأة والتقليل من شانها.كما يقتضي الأمر أن نتخذ موقفا صريحا دون مواربة، من وضعية النساء كما كانت قائمة بالفعل بصفة موضوعية في تاريخنا الديني والعقائدي وفي منظومتنا الفقهية .ولا يكفي في هذا الاطار أن نستظهر ببلادة أو انتهازية ايديولوجية نصوصا دينية في تمجيد المرأة والإعلاء من قيمتها لنكون في صف المناصفة وحقوق النساء،لسبب واحد على الأقل،هو أن هذه النصوص التي نحتفي بها فخورين في المناسبات،ليس لها اي أثر ايجابي على أرض الواقع الاجتماعي الذي يفند فعاليتها العملية.وهذه النصوص تحتاج باستعجال الى مساطر وإجراءات تنظيمية عقلانية لتفعيلها،كما تحتاج أيضا الى تشغيل جريء لآلية الاجتهاد. أما آن أن نطرح السؤال قويا وشجاعا على أنفسنا: ما السبب الذي يجعل هذه النصوص الجميلة والمشرقة، فاقدة لأي فعالية عملية في الحقل الاجتماعي المغربي،إلا فيما نذر وفي حيز سوسيولوجي ضيق جدا ؟ لا شك اننا هنا سنواجه أسئلة حرجة ستستفزنا. وهذه الأسئلة ستطالبنا بالقيام بنقد ذاتي مرير لذواتنا ولكينونتنا ولتاريخنا الفقهي والسياسي والاجتماعي المشترك؟ وبدون هذا النقد الشامل،لن نستطيع تقديم اجوبة حقيقية على ظواهر نفسية واجتماعية وسلوكية لا حصر لها نعيشها في هذا العصر،تسبب لنا أحيانا كوارث اجتماعية حقيقية.
وأنا اتذكر في هذا السياق أنني كنت أقول وأكرر دائما في السنين الماضية لطلبتي في مسلك للماستر يسمى التراث الشعبي والتنمية وفيما بعد في تكوين للدكتوراه في نفس الاطار التخصصي،اننا لسنا هنا من أجل تمجيد هذا التراث الشعبي ورد الاعتبار المجاني له ،بل لنعالجه كباحثين معالجة أكاديمية موضوعية،فالتراث المعني ليس خيرا كله كما قد نتوهم ذلك. اننا هنا من أجل رد الاعتبار العقلاني للتراث قصد خدمة الحاضر ليس إلا...
هناك شرط آخر في الاقرار بالمناصفة بشكل سوسيولوجي ملموس وموضوعي،هو بالضبط،شرط ترقية النساء انفسهن لمواكبة المشروع بشكل فعال وايجابي. في هذا السياق بالذات،يذهب تفكيري الى النساء اللواتي يعاكسن مشروع المناصفة بطريقة أو أخرى، اما بسلوكيات معينة معادية للرجل أو بثقافة متخلفة ترضى بأوضاع غير مقبولة اليوم ،بحيث تقبل المرأة في هذه الحالة كل المظاهر المشينة للاستعلاء الذكوري والاستعباد الذميم لشخصيتهن،عن جهل بحقوقهن أو عن خوف مشروع من موقف عدائي وظالم للمجتمع. كما يذهب نظري ايضا في هذا السياق،الى تطرف بعض شعارات المنظمات النسائية وسقوطها أحيانا في خطابات شوفينية غير مبررة،لا علميا ولا سوسيولوجيا. دون أن أنسى في هذا الاطار بالتحديد،الطابع الانتهازي الواضح لبعض المبادرات النسائية التي يزكيها المجتمع وتزكيها اعرافه ويزكيها فقهه وتشريعاته المدنية،فيما يتعلق بالمسؤولية الكاملة للرجل في التكفل بنفقة الأسرة حتى في الحالة التي تكون فيها المرأة ذات دخل مادي قار ودائم،وذلك بحجة دينية محضة تقول : (الرجال قوامون على النساء).وما يلفت الانتباه بشكل خاص في هذه النقطة،هو تمسك المنظمات النسائية المنغمسة في الحداثة بدورها بهذه الحجة،رغم اعتراضهن على عدد كبير من أحكام المصادر الرئيسية للتشريع الاسلامي.وهذا ما اسميه بالتعامل الانتهازي مع مشروع المناصفة....
أخاف في كثير من الأوقات أن تكون المناصفة في هذا البلد ريعا جديدا يضاف الى اشكال الريع الكثيرة الأخرى التي تساهم في تأخرنا.لهذا أقول بوضوح وبتشديد حاد : ليست المناصفة كدعوة الى مساواة قائمة على منطق النصف العددي،أرقاما وإحصائيات لتوزيع الحصص والكراسي الوثيرة والامتيازات المالية والمغانم السياسية والاقتصادية والاجتماعية بين الأحزاب والهيئات والمؤسسات والفئات الاجتماعية المختلفة،وليست أيضا تزيينا لصورنا بتقنية (الفوطوشوب)امام العالم نرسلها الى الخارج ونتقبل بعد ذلك تهانيه لنا وتزكيته لأعمالنا الرشيدة والسديدة .ومن الممكن أن نعاين مظاهر هذا الريع في نظام المحاصصة المعتمد في النظام الانتخابي الوطني في السنين الأخيرة،بحجة تشجيع الانتقال الديمقراطي الذي يجري على مراحل متعددة.وهكذا لدينا لوائح وطنية للنساء ولوائح وطنية للشباب،لا أعتقد اطلاقا انها تنفع إلا أصحابها والمستفيدين المباشرين منها.أما مشروع المناصفة،فلا أخاله يستفيد شيئا على الاطلاق.ولو فكرنا بطريقة عقلانية لوضعت الميزانيات المعتمدة في هذا الاطار،في صندوق خاص بالتنمية النسائية القروية من اجل تمويل برامج موجهة مباشرة وبشكل حصري، الى محاربة ظاهرة عدم ذهاب الفتيات القرويات الى المدارس أو مغادرتهن المبكرة لها.ففي هذه الحالة،أعتقد اننا سنكون قد خطونا فعلا خطوة حقيقية في مسار المناصفة الصعب...
يتعلق الأمر في مشروع المناصفة، بالرهان الأعسر في المسلسل الديمقراطي وهو بطيء في المغرب.انه رهان المساواة على أساس المواطنة والفردانية والعدالة الاجتماعية.وأنا اقول أنه يمكننا أن نحقق مكاسب لا بأس بها في مجال الحريات باختلاف انواعها،في زمن تاريخي قد لا نحقق فيه سوى مكاسب متواضعة ومحدودة جدا في مجال الاقرار الفعلي للمساواة.
أتذكر في هذا المقام،كلاما مقتضبا وحكيما لعالم الاجتماع ألان تورين في حوار علمي شيق أجري معه : " (...) قد تكون الديمقراطية هي الحرية (..).ولكن اذا كان مطلوبا مني أن أتحدث عن ماهيتها الأسمى،فأنا أقول بأنها المساواة..."....
أيها المدافعون عن المناصفة(رجالا ونساء)،حاربوا الاكراهات التي تقف في وجه تحقيقها، في ذواتكم وأنفسكم ،قبل محاربتكم لها عمليا في الحقل الاجتماعي.فقد تكونوا أنتم بالذات، أيها المتحمسون للمساواة بين الرجال والنساء،فرامل خفية، تضاف الى الفرامل القوية الأخرى في عجلة المناصفة...وتلك معضلة تاريخية حقيقية...وستكونون لا محالة، مسؤولون ومساهمون في تأبيد الأوضاع التي تنتقدونها.....
أيها المعارضون أو المتحفظون المترددون والخائفون من المناصفة(رجالا ونساء)،كونوا متيقنين أنه لن تتحقق أية تنمية ولا أي تحضر في هذا البلد،اذا لم تتمتع النساء بمساواة كاملة مع الرجال....وقد تكون خطبكم الدينية الجميلة والبراقة حول المرأة المسلمة وأدوارها التاريخية الريادية المفترضة، وحريتها وحقوقها ومقامها الديني الرفيع بالذات سبب عدم تحررها الأبدي في الوقت الراهن، من حيث أن هذه الصورة التي تسوقونها باعتزاز ركيك،تتناقض كلية مع ما يجري بالضبط على أرض الواقع الاجتماعي...وتلك مسؤولية دينية وتاريخية عظمى....