"انقتل أخوي شادي بالحرب، وأخذ فرحتنا وحياتنا معه"
صوت الشابة نبال يرتجف وهي تضيف:" كنت في وضع نفسي قاسي وصعب للغاية، كنت فاقدة الثقة بنفسي وبأي تدخل بعد ما قتل أخي شادي، وتضرر بيتنا من القصف الإسرائيلي، وأمي من شدة الحزن والصدمة أصابها الشلل"
وتكمل نبال (25) عاما:" كنت أبكي طيلة الوقت، على فقدان أخي وعلى أمي القعيدة، تحاملت على نفسي والتحقت بدون اقتناع بمجموعات الدعم الجماعي، وكنت مصابة بالاكتئاب وأقاوم أي تغيير لأني كنت أتألم وحياتي كلها تغيرت للأسوأ"
وتقول نبال بعد التحاقها بالجلسة العاشرة للدعم الجماعي قائلة:" لم أتخيل أنه يمكنني الابتسام من جديد، أشعر الآن بالثقة والتقدير لذاتي، وأصبحت قادرة على التعبير عن مشاعري، والتحكم بمشاعر الحزن والغضب في داخلي، لقد تعلمت من تجارب النساء الفاقدات الأخريات، وأخذت القوة من قصصهن وحزنهن، وأصبحت أكثر قوة وصلابة، لقد انعكس تحسن حالتي النفسية على حالة أمي فقد أقنعتها بجلسات العلاج الطبيعي، وبدأت تتحسن عن السابق، لقد بدأنا نستعيد حياتنا مرة أخرى بفضل الدعم النفسي والاجتماعي الجماعي لبرنامج المرأة الاحتلال والفقدان في غزة"
***
"كنت أبكي ليل نهار، هذا كل ما كنت أفعله، شعرت تماما أن حياتي توقفت بعد أن فقدت أمي في العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة"
وتضيف أنسام (20) عاما:" ارتديت الأسود، وحدث الفقدان كان ماثلا أمامي حتى بعد مرور عام ونصف على تجربتي، كنت أتألم، ولم أعد أشعر برغبة في الحياة، اليأس كان مسيطرا على أيامي، ولم أعد أذهب إلى الأفراح أو أزور أحدا وزاد شعوري بالوحدة، انقطعت عن صديقاتي، وأصبحت مسؤولة عن 20 فردا في أسرتي بما فيهم اخوتي"
أنسام فقدت أمها التي كانت تمثل لها كل شيء، وأصبحت مسؤولة عن اخوتها وتزوجت من ابن عمها بنفس المنزل، وافقت بتردد على الانضمام إلى جلسات الدعم الجماعية التي نظمها مركز شؤون المرأة في غزة، وكانت تجلس بصمت لا ترغب بالمشاركة وكلما حاولت التعبير عن فقدانها كانت تجهش بالبكاء وترفض الحديث، ولكنها بدأت بالاهتمام بالالتزام بالجلسات الجماعية حين شعرت أنها جلسات مختلفة ومميزة، وهنالك عشرات النساء يشاركن قصصهن بسرية وراحة، وهنالك من فقدن أفراد أسرتهن بأكملها.
تقول أنسام:" اليوم في هذا اللقاء مع مجموعات النساء الفاقدات تمكنت أخيرا من الابتسام والضحك من قلبي، تمكنت من أن أعيش لحظة السعادة بينهن، ونجحن في تغيير نظرتي للحياة، لقد اكتشفت نفسي من جديد، وبدأت أتأمل كل ما حدث لي، وأنا على يقين أنه ليس بإمكاني أن أغير ما حدث لكن بإمكاني أن أغير مشاعري السلبية تجاه الحياة، من حقي أن أعيش وألا أدفن نفسي بدون ذنب."
وتضيف:" ما ذنب زوجي واخوتي وأخواتي يجب أن أعيد الاعتبار لذاتي وأقدر نفسي، بدأت العودة إلى زيارة صديقاتي، وارتداء ملابسي بكل الألوان وليس الأسود فقط، اريد أن اسمي طفلتي باسم أمي لأني أحبها، أشكركم كثيرا لأنكم أعدتم لي حياتي."
قرأت أنسام الشعر الذي تكتبه لأول مرة في اللقاء الجماعي أمام النساء الفاقدات واللواتي شجعنها بالتصفيق فكانت سعادتها كبيرة بهذا الاحتفاء من الجميع.
أنسام هي إحدى النساء اللواتي فقدن أحد أحباءهن سواء زوج أو ابن أو أخ أو أم أو بيت، وعشن تجربة الفقدان المريرة بسبب العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة في 2014 حيث قتل ـ2241 فلسطيني، منهم 558 طفل، و300 امرأة فلسطينية.
كما وتضرر وفقا لإحصائية مركز الميزان لحقوق الإنسان في غزة 23712 بيتا بشكل جزئي، فيما تدمر 8383 بيتا بشكل كلي، ما تسبب بأضرار نفسية واجتماعية وانتهاك لخصوصية النساء الفلسطينيات وحياتهن الخاصة والعامة.
فقدت بيتي وأحلامي
تقول عطاف ذات الخمس وأربعون عاما بعد أن فقدت بيتي بسبب الحرب الأخيرة على غزة أصبحت انسان آخر، كانت حالتي النفسية سيئة كثيرا، شعرت أن أحلامي ومستقبل أولادي قد انتهى، وأصبحت عصبية ولا أثق بنفسي، لأني ذقت المر كل عمري حتى يصبح لي بيت، تحملت الفقر وعملت في بيع الترمس والذرة في الشوارع حتى أجمع المال لبناء البيت"
وتضيف:" مضى عام ونصف على الحرب وأنا لازلت أعيش في أجزاء تبقت من البيت، ولا يقيني البرد ولا الحر، وكنت حزينة أغلب الوقت، وحين التحقت ببرنامج المرأة والفقدان وجلسات الدعم الجماعي كنت أحاول الهروب من واقعي التعيس، لكني فوجئت بأنه ساهم في تحسين حالتي النفسية، وأصبحت أفكر بالنساء الفاقدات وقصصهن القاسية، وشعرت أني لازلت أملك حياة أولادي وحياتي فحمدت الله وشعرت بالتوازن مرة أخرى.
وتكمل وابتسامة على شفتيها:" تغيرت مع زوجي ولم أعد عصبية، وتغيرت معاملتي لأولادي، وأصبحت أعبر عن حبي لعائلتي وأزور أقربائي وجيراني وأشاركهم أفراحهم وأتراحهم وهذا بفعل لقاءاتي بمجموعات النساء الفاقدات، وتكمل:" لقد أصبح لي عائلة ثانية" تقصد مجموعات النساء الفاقدات
تقول إحدى النساء الفاقدات:" انتظر يوم موعد الجلسة من بداية الأسبوع، حتى أن زوجي دائما يتساءل باستغراب: ماذا يفعلون لكم هناك وكأنك تذهبين في رحلة؟ تعودين بعدها سعيدة ومتفائلة رغم دمار بيتنا وصعوبة العيش هنا؟ فأجيبه: يكفي أني وجدت من يصغي ومن يهتم بي كامرأة، لقد علموني كيف أكون قوية بالاعتماد على نفسي وجاراتي والنساء في الحي بأكمله مثلي"
من فاقدة إلى داعمة
والتحقت كل من عطاف وأنسام ونبال في جلسات الدعم الجماعي التي نظمها مركز شؤون المرأة في غزة بالتعاون مع مركز الدراسات النسوية في القدس، وبتمويل من Kvinna Till Kvinna ضمن مشروع المرأة الفلسطينية، الاحتلال والفقدان، الذي بدأ فعليا في النصف الثاني من العام 2015 حيث بدأت الأخصائيات الاجتماعيات في العمل الميداني في منطقة الشجاعية بغزة حيث أنها أكثر الأماكن تعرضا وتدميرا في العدوان الإسرائيلي الأخير، واستجابت ما يقارب من الـ 60 امرأة تم توزيعهن على 3 مجموعات لتلقي دعما نفسيا واجتماعيا حيث أنهن تلقين إلى الآن 15 لقاءا لكل مجموعة في مركز شؤون المرأة بغزة.
وقد التقت مجموعات الدعم الجماعي الثلاثة في منتجع البلوبيتش على شاطئ بحر غزة للمرة الأولى ليتعارفن أكثر ويتبادلن تجاربهن ويدعمن بعضهن البعض، ويتلقين مزيدا من الترفيه والدعم في الرعاية الذاتية وحسن الحال والأمن المتكامل بما يتوافق مع أهداف المشروع الأساسية والتي تهدف لمساعدتهن ليجدن أنفسهن مرة أخرى ويصبحن نساءا داعمات بدلا من نساء فاقدات، كما اجتمعن مرة أخرى في يوم ترفيهي في فندق المتحف، وكان لقاءا مثمرا واتضحت فيه فعليا التغييرات في حياة هؤلاء النساء.
إن جلسات الدعم الجماعي هي إحدى مستويات العمل في المشروع، يرافقها جلسات دعم فردي لما يقارب من 72 حالة على مدار العام 2016، حيث يتم زيارة النساء الفاقدات في بيوتهن عدة مرات، بالإضافة إلى الترتيب للقاءات الدعم الجماهيري الذي يستهدف كل شرائح المجتمع من نساء ورجال وذلك من أجل دعم عائلي وجماهيري للنساء والتخفيف من حدة الإشكالات المجتمعية التي تنشأ بعد الفقدان وضرورة تفهم الوضع النفسي للفاقدات.
هذا وتعتبر النساء الفاقدات هذا المشروع بمثابة بيتهن الثاني حيث وجدن ما لم يجدنه مع آخرين، حيث بدأن بتشكيل صداقات وزيارات اجتماعية لبعضهن البعض ويدعمن بعضهن ايمانا منهن بالتغيير الذي بدأ في حياتهن مع انضمامهن للقاءات الدعم الجماعي.
ويأمل كلا المركزين على تعميم تجربة المشروع في كل محافظات قطاع غزة، لأهدافه القيمة في تعزيز ودعم المرأة الفلسطينية والعائلة الفلسطينية والمجتمع بأكمله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) منسقة مشروع "المرأة الفلسطينية، الاحتلال والفقدان" مركز شؤون المرأة-غزة