ليلة من ليالى العمر. ابتسامات ساحرة يتلوها ضحك صاخب ما يفتأ أن ينحسر منتهيا فى ابتسامات أخرى أنعم أو أقوى سحرا. فرحة على الوجوه ورغبة أكيدة فى قضاء سهرة لا يجرؤ أن يقترب منها هم أو غم. من خطط للسهرة تعمد التنوع. تنوع الحاضرون فكان منهم الشباب، ومنهم النساء والرجال، ومنهم من تجاوز مرحلة وسط العمر، ومن النساء كان هناك من جربت الزواج وأمامها تجلس من لم تجربه، وكان بين الرجال من عاش حياته لم تشاركه فيها زوجة وإن حفلت بمن توقفن فى بعض محطاتها وشاءوا أن يتركوا خلفهم ما يذكرنهن به، حفلت أيضا بمن مررن بها مرور من لا يريد أن يذكر أو يتذكره أحد. تنوع الحاضرون وتنوع الطعام أيضا، كان هناك الهندى والصينى واليابانى واللبنانى وكان للمصرى بين الصحون مكان احتله بتواضع محبب وتردد واضح بين أن ينافس أو يتوارى.
***
تنوعت الصحون على المائدة، وتنوع الجالسون حولها، وتنوعت الموسيقى والأغانى. الغلبة كانت لألحان الستينيات والسبعينيات، ولكنها الغلبة العادلة التى لم تغبن حق الطرب وأغانى الحب عند قدامى العرب وأقصد بالقدامى من انتموا لجيلى من بعيد أو قريب. هذه الأغانى كانت دائما فى هذه السهرة كما فى غيرها تدفع الرءوس للاقتراب من بعضها البعض، لحظتها يحلو الهمس بأرق الكلمات للتذكير بأحلى الذكريات، لحظتها يتعين على الرجل أن يبدع فى انتقاء ما يهمس به كما يتعين على المرأة أن تكون مستعدة للتعامل مع هذا الإطراء. الأجساد تتمايل مع الموسيقى والعيون وهى نصف مفتوحة تتجول بدلال والشفاة تشارك بدون صوت. كل من فى القاعة فرحان وسعيد.
***
انتهزت فرصة هدوء فنهضت من مقعدى للتريض فى أنحاء المكان عملا بنصيحة أطباء أن لا أطيل الجلوس. خرجت من القاعة إلى ردهة خافتة الضوء تلاحقنى أصوات المرح والبهجة والضحك والغناء. هناك عند نهاية الردهة لمحت امرأة أدارت وجهها حين وجدتنى اقترب من مكان وقوفها. عرفتنى قبل أن أعرفها. كانت خلال وصلة الغناء تجلس عند الطرف الأشد إظلاما من حيث جلست. ظننت أنها تتوارى فى الردهة لتدخن. اقتربت أكثر لاكتشف أن دموعا كانت تبلل وجنتيها قبل أن تمد يدها إليهما لتمسحهما. مسحتها ولكنها فشلت فى محو آثارها. نظرت نحوى بعد أن رسمت ابتسامة عاجزة. أبديت تعاطفا فانفجرت فى البكاء وعادت الدموع تبلل الخدين. كثفت جهود التعاطف حتى هدأت انفعالاتها بما يسمح لها بأن تعود إلى المائدة فى مكان اخترناه قريبا من كل فرد فينا.
***
راعنى أن نكون فشلنا فى إدخال السرور إلى قلب ضيفة من ضيوفنا، بينما أفلحت أضواء المكان فى الكشف عن مفاتن ورشاقة جسمها وعن رونق شعرها المتهدل بثقة على كتفيها. فشلنا كرفاق المائدة وفشل المطرب وفشل الراقصون فى إدخال الفرح إلى قلبها. امرأة فينا تبكى ونحن نضحك. حاولنا كل بطريقته تغيير مزاجها. وبالفعل خفت البكاء وخفت الضحك أيضا. انحسرت البهجة وانسحب الفرح وبقيت على وجهها آثار دموع، وتسللت إلى مآقى رفيقات لها دموع التشارك والتعاطف. حل منتصف الليل. بحلوله استعدت الجماعة لمغادرة المكان. رحلوا جميعا إلا هى وأنا. استأذنا أن نتخلف وسمحوا.
***
قالت اعذرنى. أرجو أن تعذر دموعا رفضت أن تظل محبوسة. لا أحد غيرك كان يمكن أن يصدق أننى ما بكيت إلا لأننى شعرت بفيض من السعادة لم أشعر بها منذ سنوات. أنا يا صديقى واحدة من نساء المهجر جئت إلى مصر فى إجازة فساقتنى الظروف إلى ليلتكم، إلى فرحكم وبهجتكم ورقصكم وغنائكم. لم أضحك كما ضحكت هذه الليلة، لم أفرح كما فرحت هذه الليلة ولا غنيت ولا رقصت كما فعلت معكم وبينكم، فجأة فى غمرة سعادتى خطر لى أن أيامى فى مصر اقتربت من نهايتها وأن العودة إلى بلد المهجر حانت. أريد أن أبقى. هذه بلدى. هنا وطنى. إنها مصر حيث بيتى الذى نشأت فيه ومدرستى التى تلقيت فيها أول دروس النطق والخط. مصر حيث الشارع الذى رسمنا على أسفلته بالطباشير المربعات لنتقافز فى فضاءاتها فلا نجور على الحدود الفاصلة بينها. مصر حيث كنيستى التى آوتنى آحادا عديدة وتولت بالرعاية الدائمة روحى وقلبى وضميرى.
***
أنا لى فى المهجر بيت بحديقة وجراج ولكن فى النهاية ليس كبيتى، أطل من نافذة غرفتى على شارع بأشجار على الجانبين ولكن ليس كشارعى فى هليوبوليس وأخدم فى كنيسة ولكن ليست ككنيسة كليوباترا. أنا لى هناك وطن وأحمل منه جواز سفر وأتحدث لغته وأدفع ضرائبه وأنجبت فيه أبناء وبنات وقد يتطوع أحدهم للدفاع عن سلامته وأمنه. لى وطن هناك ولكنه ليس كوطنى.
وطنى يا صديقى هو هذا المكان الذى عشت فيه ليلتى معكم. رأيت الوطن فى عيونكم وابتساماتكم وضحكاتكم، وجدته فى أغانى الستينيات والسبعينيات والطرب الشرقى. شعرت به وأنا فى أحضانكم وهى تستقبلنى ثم وهى تودعنى. هزتنى إلى أعماقى لمسات أناملكم وهى تداعب شعرى وتربت على كتفى وتجفف الدمع على خدى.
اعذرنى إن بكيت فى ليلة من ليالى فرحكم. إنما بكيت لأننى شعرت بحنين شديد إليكم وأنا بينكم، شعرت بشوق هائل إلى وطنى وأنا فيه. عرفت فى هذه اللحظة أن أحدا أو شيئا لن ينسينى بلدى أو يخفف من لوعتى عليه أو يطفئ ولعى به، أنا ابنة هذا الوطن، لا أنشدها كما ينشدون أناشيد وأغانى وطنية أكثرهم لم يدرك قيمة ما ينشد. أنا مصرية ولن يجعلنى أكفر بهذه الهوية متعصب أو جاهل أو دخيل علينا. أنا مصرية، وسأبقى مصرية.
***
غدا أرحل إلى مقر عملى وبيتى فى المهجر. من فضلك شجعهم يبثون السعادة والبهجة فى أرجاء الوطن، أريد أن أراه عندما أعود كما رأيته فى عيونكم هذه الليلة.