من الراس والكراس:
1 – في الرثاء للوالي
كتبت ؛ قبل خمسة عشر عاماً ؛ برجاء من محام – متوفى الآن - التضامن مع الحقوقيين السودانيين في مواجهتهم قانون النظام العام وفي منازلتهم والي خرطوم ذلك الزمان. أرسلت ما كتبته بالفاكس ولا علم لي إن كانت الرسالة بلغت طالبها أم لا.
قلت:
" لوهلة يبدو الأمر كضرب فريد من الكوميديا السوداء الثقبلة الوطأة : مزاج من المهزلة والمأساة : ها هم حقوقيون " أصحاب رايحة " – أو هي مستلبة غيلة – يفتحون خشم البقرة رافعين راية دستور فرضته قوة السلاح ودافعين بلا شرعية قانون أصدره متولٍ على أهل العاصمة وذلك أمام محكمة لا تستند شرعيتها إلا الى الأمر الواقع دون غيره.
نحن هنا إذن حيال واقع افتراضي نتنازل فيه طوعاً عن مقدرة حواسنا على عدم التصديق أي حالة من الإيهام المسرحي :
suspension of disbelief
• للحقوقيين أن يحملوا شيئاً من الرثاء لوالي الخرطوم فهو لا يملك من الشجاغة ما يتيح له الجهر بدخيلته : لا يستطيع أن يقول لنساء العاصمة أن يقرن في بيوتهن ولا أن يقول لهن – حتى من وراء حجاب " انتن ناقصات عقل ودين والعمل في محطات وفود السيارات والمطاعم يقتضي – ضربة لازب- قدراً من العقل والدين فوق طاقتكن "
: ذلك أنه يدرك أن أهل الجبهة الإسلامية الذين أسبغوا عليه النعمة والسلطان " يلهضون " وراء شيء من القبول والشرغية على أعتاب أولئك الذين أمروهم يوماً بأن " يقولوا لجدادهم كر " – وهو من جهة أخرى – يجد لزاماً عليه أن يدلي بدلوه ويدق دلوكته الخاصة به في مولد الهوس الديني الذي باخ سعاره وفترت حماسته . والهدف الذي اختاره المتولي هو نساء العاصمة القومية – ولم لا ؟ ألم تظل المرأة السودانية " الجضم الذي تعوَد على اللطم "والذي يتكور تحسباَ حتى حين يرفغ أمثال المتولي أيديهم بالتحية ؟ والى ذلك أليست المرأة – عند موروث بعض اهل العاصمة القومية – مستودعاً لقدسية مبهمة لا تتيح لها نفعاَ قدر ما تسمح لمجتمع ذكوري تكبيلها وفرض حماية عليها ليست على طريقة " حبسوها ولينوا العيش " ولكنها على طريقة "بليلة المكشَر" التي ظلت منهج "الصحوة الإسلامية " لحكم اهل السودان ً .
• لعل ما يدعو متولي العاصمة الى أن يكون حرياً برثاء الحقوقيين هو أنه يجد لزاماً غليه الإدعاء بانه يخشى غواية المراة العاملة لأعواد الكبريت شديدة الإشتعال أو غوايتهم لها – لذلك فليس أمامه سوى اتهام أصحاب المحال وآباء العاملات ضمناً بامتهان القوادة . ولربما راودته لوهلة فكرة خصاء الزبائن إلآ أنه اكتفى قي ما يبدو بمحاولة فرض ضرب أدني من الخفاض الفرعوني المتجدد ذاتياً على عينة من نساء الخرطوم ؛ ردعاً للأخريات . ولا ريب في أنه تفكَر وتدبَر في سن قوانين بديلة مثل ضرورة اجتياز المرأة العاملة لمسابقة دمامة لضمان جدارتها بانزال الفتور في همة الفحول المعروف أنهم ليسوا "عوافين" . ذلك قد يقتضي عوضاً عن الزينة – استعداد المرأة العاملة لإضافة تشوهات خلقية من بثور وكدمات وتقيحات لا دائمة ولا حقيقية ( ذلك أن الرسول (ص) كان ينهى عن المثلة حتى بالكلب العقور) – ولكن على سبيل كف العين حتى ترتد أعين الرجال خاسئة حسيرة . ولا شك ان الفكرة راودته ايضاً في تشجيع انتاج عطور نسائية طاردة للأجانب – لا للأزواج بطبيعة الحال.
• ولعله حار قليلاً في ما إذا كان لقانونه أن يطال الشبان الذين حباهم الله بشيء من الحسن والوسامة : ذلك أنه يدرك – لا ر يب – ولوع بعض الزبائن بالجنس المثيل في بلد اوصد فيه الحكام العسكريون الراهنون قدر إمكانهم ابواب العلاقة المعافاة بين جنسيه ... في بلد ما زال مغنيه يلهج ب " هي في الجمال زي يوسف " ... في بلد كان حزب متولي العاصمة هو الذي وقف وراء ما أسماه الراحل محمد المهدي المجذوب بسودنة البغاء
.يحق للحقوقيين الرثاء لمتولي العاصسمة وهو يحاول إقامة دولة طالبان أخرى في عاصمة قومية كسبت بتكوينها الديموغرافي – على الأقل – تعدداً في الموروث الثقافي والحضاري يعتبر ذخراً لا انقلاتاً ولا فوضى . بين نساء الغاصمة القومية من كن يعملن بالفؤوس في الحقول وبالسواصير في محلات الجزارة ... بينهن حفيدات تاجوج التي إن تعرت أمام زوجها فلكي تكسب عصمتها ولكي تقول لزوجها إن جسدها ملكها وحدها (كما نورا في بيت الدمية ؛ مسرحية هنريك إبسن).... بينهن حفيدات مقاتلات البجة اللائي كن – بشهادة المؤرخين – يغرزن العصي الغليظة في مؤخرات قتلى جيوش الخلافة الغثمانية بامتداداتها الخديوية – ايام الثورة المهدية. بينهن حفيدات نفيسة سرور التي خاطت بيدها غلم اللواء الأبيض في بيت علي عبد الطيف وحفيدات العازة محمد عبد الله التي ظلت حتى الممات تسمي نفسها حرم الشهيد على عبد اللطيف لا ارملته والتي حين جاءها عرض المساعدة من مكتب اقامه النميري لتكريم ذوي أبطال 24 بالعطايا قالت : " نحن ضحينا بدمنا تاني نرجع نتدنى في أيه ؟ "... حفيدات بت المكاوي التي أمرت المهدي : " إن طال الوبر واسيه بالجزة وإما عم َ نيل ما فرخت وزة " في محاولة منها لتعليم المهدي مباديء المادية التاريخية .. و تلك التي كان تنوزع الثريد من جردل كبير في شوارع الخرطوم على حنود 24 لشهادة (موت دنيا) ؛وحفيدات عمايم المرأة الريفية والتي قال عنها باكر بدري " ليت كل النساء عمايم": زوجها " هرب ببطنه" لأن الزمن زمن جوع وترك لها ثلاثة أطفال وكان عليها الحضور يومياً الى رفاعة لتساعد بيديها في حفر بئر ومترة لبابكر بدري:. عن الزوج الهارب ببطنه حكت عن زوج " عملت زوجته مديدة ووضعتها في المواعين فقدمت له نصيبه وهو الأكبر فقال وهذا لمن ؟ قالت للأولاد فقال لها والله الاولاد إن اكلوا يبكون وإن لم يأكلوا يبكون ضعيها فوق حقي ثم قال لها وهذا الماعون لمن ؟ قالت لامي قال والله أمك إن أكلت تذمنا وإن لم تأكل تذمنا صبيه في قدحي . ثم قال وهذا لمن – وهو الماعون الاخير فقالت لي انا قال لها : أنت ياأم عصيبات إن أكلت ما تسمني وإن ما تاكلي لا تسمني.
بتلك الحكاية أختزلت عمايم العظيمة - على نحو كاريكتوري- علاقات الأسرة في مجتمع ذكوري !
• في مسرحية " الإمبراطور جونز" التي كتبها الأمريكي " أوجين أونيل" : البلدة بلغت روحها الحلقوم من ظلم الإمبراطور فتسلل أهلها ليلاً الواحد إثر الآخر الى .... الغابة.
2 – عوض برير والعفة
• كنت كتبت في العام 1967 في صحيفة أخبار الاسبوع مقالة تعرضت لملامح المجتمع الأمومي في السودان القديم والكنداكات ولدور الطاحونة في تحرير المرأة السودانية من ربقة الطحين واوردت بعض أغاني المرحاكة التي كنت سمعتها من الوالدة.. بيد ان جوهر المقالة تمثل في يقيني بان جماعة الميثاق الإسلامي تريد لف نساء السودان بحزام عفة تحتفظ الجماعة بمفتاحه في مكتبها بعمارة السواحلي . وخلصت الى ان عفة المرأة السودانية بيدها وحدها وقلت إن ما يجوز للرجل يجوز للمرأة أيضاً والقول بغير ذلك سيذهب جفاء اً لأنه لا ينفع الناس..
• عوض برير رئيس التحرير قرأ المقال وقال لي إنه أبو بنات وتمطى واقفا وأضاف إنه في طريقه ليربط الطريق على بعض أصدقائه النواب.
في اليوم التالي وجدت المقالة منشورة بكاملها ولكن عوض برير أضاف اليها : " وعليها المحافظة على عفتها" . وهكذا اغتال مفالتي بأضافة اربع كلمات.
3 - معتصماه سوداني
أمل دنقل كتب بلسان المتنبي :
"سألني كافور عن حزني
فقلت انها – (اي خولة البدوية التي لقاها بالقرب من اريحا) - تعيش الان في بيزنطة
شريدة كالقطة
تصيح " كافوراه .. كافوراه ..."
فصاح في غلامه ان يشتري جارية رومية
تجلد كي تصيح " واروماه .. واروماه ..."
لكي يكون العين بالعين
والسن بالسن
ولو ان المعتصم صار سودانياً وسمع امرأة سودانية في غلبها وذلها وامتهانها تستغيث : يا معتصماه !
أتراه يتوارى خلف ثوبها ؟
ام يولي الأدبار درءاً للشبهة ؟
ام ان كافورا سيرسل غلمانه بالطائرات والدبابات القبض عليه
وجلده حتي يقول : " الروب ! وا اسفاه " ؟
4 - الرَمة
علمت ان بعض الضباط في الجنوب كان الواحد منهم تصحبه في أمسيات السمر "رمة " أي امرأة خاصة به لزوم الانس. .
والرمة الخاصة بي أنا اسمها " الرمة وحراسها " وهي مسرحية كتبتها برجاء من محمود شريف كتابة مسرحية لاطفال مدرسته .و نشرتها في ملحق لجريدة الصحافة عام ١٩٦٩
المسرحية اعتمدت هيكل اللعبة المشهورة: الرمة معصوبة العينين ومغطاة بشملة وحارسها يستعرض عضلاته امام الجمهور برفع فلكابة كما لو كانت من الأحمال الثقيلة. فريق المهاجمين ثلاثة يمثلون الهوس الديني وجهاز الدولة وكاوبوي. يثخنون الرمة بهراواتهم دون ان يتمكن الحارس من القبض على اي منهم ليكون هو الرمة.
الرمة التي رمزت عندي للبلد تضيق ذرعا بالغلب والالم وتقف على قدميها منتفضة لتجلد الحارس أولاً ولتلاحق مهاجميها قائلة :
اصبح الصباح غيروا يا قباح
هربوا مهددين بالعودة وكانوا عند ضربها يغنون :
عروسكم ام عَصّب
بنبر القصب
في وقت لاحق في مدرسة المسرح اللندنية التي ترددت عليها استفدت من لعبة الرمة وحراسها - في تمرين للطلاب حول التجارب الحياتية.
الطالب الذي لعب دور الرمة انتحب بمرارة. الألم البدني لم يكن السبب وانما غبن الحرمان من رد الضربة وفقاً للطالب.
عنَ لي وقتها جعل الرمة في المسرحية رمزاًٍ للمرأة لا للوطن باعتبارها الجضم المعود على اللطم .ترددت كثيراً فالمرأة السودانية ليست عدو الرجل ولا هو عدوها المطلق. عديدون من رجال السودان يناصرون قضية المرأة باعتبارها قضيتهم هم بالمثل وحتى في حالات الوصاية على المرأة فهم :
حجبوها ولينوا العيش
ما كان حجاب الكنين قيداً ورقا
على حد قول المجذوب.
5 – أخوات انتيغونا
المرأة السودانية قد تجد ؛ عندي ؛ رمزاً لها في " انتيغونا " مسرحية سفوكليس -
والتي مثلها وينسون مانديلا وسيسيلو في سجن روبين إيلاند خلال أعياد الميلاد في السبعينيات والتي كتب الفرنسي جان اونوي (وكنا اخرجنا له العصفورة في الستينيات) أعداداً جديداًاً للمسرحية ايام الاحتلال الألماني لفرنسا العام ١٩٤٤ . انتيغونا كانت رمزاً لرفض السلطة وللمقاومة.
في مسرحية سفوكليس يصدر " كريون " حاكم طيبة مرسوما ً يحظر فيه دفن جثمان ؛بولينيسيس" شقيقها. ويأمر بترك الجثمان في ميدان المعركة نهباً للديدان والجوارح. انتيغونا تعاند الملك وتدفن أخاها تحدياً. وحين تدفنه من جديد؛ بعد ان نبش الحرس القبر الضحل الذي حفرته ؛ تقاد الى الملك "كريون" الذي يأمر بتعرية الجثمان وكشفه في العراء وبدفن " انتيغونا " حية اي وأدها داخل احد الكهوف.
" انتيغونا " تشنق نفسها في كهفها وهيمون خطيبها يقتل نفسه حسرة كما تقتل امه وهي زوجة كريون نفسها حسرة عليه. اما كريون فبعض أصابع الندم.
لا رفع كلفة في التماهي مع " اتيغونا": في المقاومة لا في الإنتحار.
نساء السودان هن امهات وشقيقات وزوجات لشهداء وضحايا مدفونين في قبور جماعية مجهولة او مرمية جثامينهم في الخلاء او الأنهار . من حق أولئك النسوة ان يتم الدفن اللائق لذويهم . وحين يقفن في وجه السلطة تحدياً لها ودفاعاً عن حرمة الشهداء و جلال سالموت فإنهن يقمن أيضاً بتمثل دور انتيغونا مسرحية سفوكليس المكتوبة نحو عام ٤٤١.
قبل الميلاد . لمً لا ؟ ألا ينتمين للجنس البشري ذاته ؟