علمتني بطلة نصّي هذا ألا أحكم على الناس من النظرة الأولى، أو على الأقل ألا أبني لهم أو أرسخ صورة ما مسبقة في عقلي الباطن.
فتاة المصعد، أو كما كنت أُلقّبها، فأنا لم أسألها عن اسمها بعد، كنا نأخذ ذات المصعد بشكل شبه دوري غالباً لتتوجه كل منا إلى عملها أو وجهتها المرادة، في تلك الأثناء كنت أستغل المدة القصيرة قبل أن يفتح باب المصعد إيذاناً لنا بالخروج من حجرته الضيقة، التي كانت تثير رهبتي، بالرغم من أن الأمر قد يكون بالأمر المعتاد لغيري، حتى إن فتاة المصعد كانت تكون أكثر راحة مني أثناء وجودنا فيه، كنت أنظر وأتمعن خلسة أحياناً فيها أتأمل ملامحها، وأردد في نفسي جملة "يا لها من ملامح هادئة ناعمة ملائكية، وجه منير دائري الشكل وذقن صغيرة دقيقة، عينان سوداويان مائلتان إلى النعاس وابتسامة صامتة!"، تقول لمن يراها إن من أمامك إنسانة شابة في آخر العشرينات من عمرها جد مسالمة ورقيقة.
مرت أشهر على هذه الحال الروتينية في لقاءاتنا المتكررة والصامته، كحال أي غرباء يتقابلان بمحض الصدفة العفوية بحكم عملنا في نفس المبنى، وفي ظل سباقنا مع الوقت وأثناء مثابرتنا في خوض معاركنا الحياتية اليومية واجتهادنا لتحقيق ما نرجوه، هنالك دوماً وللأسف من لا يحتمل وقاحة وقساوة وعناد الوقت ومشاكل الحياة وضغوطها.. لكل منا قدرة محددة على المقاومة والدفاع والتصدي لأي فخ ينصبه لنا ذلك العدو الأخطر (الاكتئاب)، هذا المرض المحبط والمعتم والقاتل للروح والعقل.
في صباح ذات يوم وأنا برفقة زميلتي في المكتب نتبادل أطراف الحديث ونرتشف قهوتنا المعتادة، التي باتت إحدى ركائز احتياجاتنا للحد من مشقة اليوم، وإن كان لدينا متسع أكبر من الوقت، وعلى سبيل التسلية "لقراءة الفنجان" لإرضاء حب الاكتشاف لما هو مبهم أو متوقع.. وتسألني زميلتي إن كنت أمانع في مرافقتها إلى طبيب الأسنان، فهي تخشى زيارة عيادة الأطباء بمفردها، خاصة عيادة أطباء الأسنان، وبالفعل ذهبت برفقتها، وما كنت لأتوقع أن تقودني الصدفة إلى مكان عمل "فتاة المصعد"، وبابتسامتها المعهودة استقبلتنا وقادتنا إلى الطبيب، لم أتمكن من التحدث إليها، لكنني على الأقل قد سمعتها تخاطب الطبيب ومريضته، وأثناء جلوس زميلتي علي كرسي المرضى، وبمحاولة من الطبيب بقطع حالة الصمت المختلطة بمشاعر الرهبة لديها، ولتشتيت انتباهها وتبديد مخاوفها، بادلنا محادثة سريعة بعيدة عن ألم الأسنان ومشاكل اللثة وصحة الفم، مفادها أن مساعدته "هناء" ليست بممرضة فعلاً، إنما هي خريجة لكلية الفنون الجميلة، وهي رسامة مبدعة، وبأنها تعمل لديه منذ سنتين ولم تتغيب قط، أومأنا برأسينا مصغيتين مهتمتين باحترامه وإعجابه بموظفته الخلوقة والمنضبطة بعملها ومواعيده.
لم يطُل الحديث حتى أتم الطبيب الكشف الكامل على صحة أسنان مريضته، واستأذنا بالرحيل، كانت "هناء" حتى اسمها جميل، واقفة قرب مكتبها حاملة بعض الأوراق، مالت برأسها قليلاً بحركة منها لإلقاء تحية الوداع وسألتنا، إن كان قد حدد الدكتور موعداً آخر أم ماذا؟ أجابتها زميلتي: "نعم، سآتي يوم الجمعة الساعة العاشرة صباحاً، عندي تسوس". دوَّنت هناء الموعد في أجندة العيادة وشكرناها ثم غادرت أنا وزميلتي متفقتين على الحضور معاً في الموعد المذكور.
كنت في طيات نفسي ممتنة لزميلتي وشاكرة لفوبياها من العيادات والأطباء وكل ما يخص الاستشفاء؛ لأنها أتاحت لي فرصة لمعرفة أمور وصفات عن "فتاة المصعد" هناء.
وها قد جاء يوم الجمعة المتفق عليه وتوجهنا معاً إلى عيادة الطبيب، كان يوماً صيفياً مشرقاً بامتياز، وفي طريقنا لاحظنا حركة الناس في الشوارع ووجوه الأطفال البشوشة وأصواتهم وهم يحدثون أهاليهم، فهو يوم عطلة، والكل مستريح بعد عناء عمل أسبوع، ومع وصولنا وجدنا باب العيادة مفتوحاً استقبلنا هذه المرة الطبيب، وباشر في علاج مريضته، أثناء تواجدنا في العيادة لم نرَ هناء بعد، "تمام وهيك منكون نظفنا التسوس وحشينا الضرس، بدي منك تعضي شوي على أسنانك، شو، حاسة بأي شي مزعج أو مش تمام؟"، كان هذا سؤال الطبيب لزميلتي مقاطعاً أفكاري وتساؤلاتي التي كانت تدور في رأسي، وبعد الانتهاء على خير، وقبل أن نغادر شكرناه وطلبنا منه أن يبلغ تحياتنا لموظفته التي لم نرَها اليوم، وقف بصمت تام والحيرة والشحوب يغطيان ملامح وجهه، هناء العوض بسلامتكم توفيت! أو بالأحرى قد انتحرت، أطلقت النار من بندقية الصيد وأنهت حياتها بيدها.. غلبها ضعفها ويأسها من مواجهة الحياة.
من منا لم يواجه أزمات أو مشاكل؟ من منا لم يمر بمرحلة صعبة خانقة، هل هكذا يكون الحل؟! طبعاً لا، نحن وُجدنا لهدف سامٍ ونبيل، لكل منا واجب، علينا إنجاز رسالتنا وتسليم روحنا للخالق عز وجل، فهو من يقرر متى نولد ومتى نموت، أرجوكم قاوموا أنفسكم أولاً.