كان المشهد مخزيا على شاطئ نيس الفرنسية، أربعة رجال شرطة مجهزين ومسلحين يتحركون لا لمحاصرة إرهابي مسلح أو لإيقاف كارثة تحيط بالمكان، بل لإيقاظ امرأة نائمة على الشاطئ، لأنها ترتدي البوركيني، تخلع المرأة رداءها وسط تهليل من الجمهور المحيط بالمكان.
القصة بدأت مطلع هذا الشهر عندما منع عمدة مدينة كان "البوركيني"، وهو مايوه يغطي جسم المرأة بالكامل ولا يظهر إلا وجهها وكفيها، واسمه مشتق من دمج كلمتي "برقع" و"بيكيني".
هذا المنع استشرى في عدة بلدات فرنسية ساحلية قارب عددها العشر، ومع أن البوركيني لا يغطي الوجه مثلا لينطبق عليه مبرر واهٍ كـ"تهديد الأمن العام" فقد برره عمدة مدينة كان بأن ذلك لتجنب "استفزاز الجمهور" الذي قد تثير سخطه الرموز الإسلامية، خصوصا في مدينة نيس التي شهدت الشهر الماضي هجوما إرهابيا مروعا خلف 84 ضحية وعشرات المصابين، أما رئيس الوزراء مانويل فالس فقد اعتبر البوركيني "ترجمة لمشروع سياسي ضد المجتمع".
المؤيدون للإجراءات الفرنسية رأوا فيها ضجة مفتعلة، وقال بعضهم "إيه اللي وداها هناك" مشيرين إلى وجود شواطئ أخرى لا تمنع البوركيني، وشواطئ خاصة يمكن للمسلمات فيها ارتداء ما يحلوا لهن، مؤكدين أن الشرطيين الفرنسيين طبقوا القانون، وأن المرأة المسلمة هي المخطئة بمخالفتها للقانون.
هؤلاء المؤيدون يتجاوزون نقطتين:
الأولى: أن القوانين ليست بالضرورة عادلة ولا صحيحة، إلزام النساء بارتداء زي معين هو قانون في السعودية وعند داعش، ومع ذلك يظل قانونا متخلفا ينبغي مواجهته ومقاومته لا الانصياع له. كانت العبودية والتمييز العنصري ضد السود قوانين أيضا في وقت ما.
الثانية: أن القانون نص على تغريم مرتدية البوركيني لا تعريتها في الشاطئ، كما أن طريقة الشرطيين الفرنسيين شابتها فظاظة غير معقولة، إذ كان يمكن بسهولة أن يتجه فرد واحد إليها لينبهها إلى المخالفة بطريقة أكثر لطفا، لا أن تستيقظ المسكينة وسط أربعة مسلحين يعرونها بهذه الطريقة.
الغريب والمثير أن السلطات الفرنسية التي تتشدد وتتعسف إلى هذه الدرجة في تطبيق القانون على امرأة نائمة على الشاطئ، سبق أن ضربت عرض الحائط بالقوانين، عندما قضى العاهل السعودي الملك سلمان جزءا من إجازته أواخر يوليو 2015 بمدينة كان الفرنسية.
وقتها تجاوز الملك ووفده المرافق الذي بلغ عدده 1000 شخص تقريبا عشرات القوانين الفرنسية دون انتظار إذن أو تصريح، وسط صمت تام من السلطات؛ حيث تم بناء مصعد خاص لنقل الملك من غرفته إلى الشاطئ، ما استلزم صب منصة اسمنتية بالمخالفة للقانون على الشاطئ، وتعاونت السلطات الفرنسية فأغلقت الشاطئ العام أمام الفرنسيين والسياح، ومنعت الصيد والإبحار في المنطقة المحيطة بمقر إقامة الملك وحاشيته، ضاربة عرض الحائط بغضب واستياء سكان المنطقة والمصطافين.
بل إن السلطات الفرنسية وقتها سارعت إلى تلبية طلبات تخالف أبسط القواعد والأعراف الفرنسية، فاستجابت لطلب السعوديين باستبعاد النساء من أطقم الحراسة المخصصة للملك، وطلب من الضابطات والشرطيات ألا يعملن في مواقع سباحة الملك ومرافقيه.
نقاش البوركيني في فرنسا يدفعنا للنقاش حول حرية الملبس في العالم عموما، وفي بلادنا على وجه الخصوص، فمن بين الذين أثارهم العمل المنحط للشرطة الفرنسية إسلاميون لا يرون بأسا في إجبار النساء على الحجاب في بلادنا، وهم مؤيدون شرسون لقوانين متخلفة تراقب أجساد الناس وتصرفهم فيها مثل قوانين مخالفة الآداب العامة وغيرها.
هؤلاء المزدوجون الذين يطالبون بـ"حرية" المرأة في ارتداء الحجاب، لكنهم يمنعونها ولو بالقوة من خلع الحجاب، وقد يعتدون على أخواتهم أو بناتهم بالضرب إذا قررت إحداهن خلع الحجاب. هؤلاء ليسوا مناصرين لحرية المرأة في ارتداء ما يعجبها، إنهم مناصر لحرية إلباسها ما يريدون هم، أما اختيارات المرأة نفسها فهي آخر ما يهمهم.
نريد دولة علمانية تترك لمواطنيها حق ارتداء ما يريدون، من حق المرأة فيها أن ترتدي النقاب أو الميني جيب، ومن حق الرجل أن يرتدي الجلباب أو الشورت، الناس أحرار حرية مطلقة في ملابسهم، ووظيفة الدولة أن تحمي هذه الحرية لا أن تكون وصية على الناس باسم الله أو باسم حماية العلمانية.