الارشيف / عالم المرأة / أخبار المرأة

السبّاحة يسرا مارديني: صقر(ة) قريش أم عنقاء الفينيقيين أم ملك(ة) أثينا؟!

  • 1/2
  • 2/2

محمد عبد الله آب - " وكالة أخبار المرأة "

تُرى هل هي مجرد صدفة أم هو قدر محتوم مكتوب؟ بغرابة فريدة، يجمع التاريخ على حين غرة بين يسرا مارديني وعبدالرحمن الدّاخل في تفاصيل ملحمية تثير الدّهشة في تشابهها وتقاطعها، كِلاهُما وُلد في الشام وهاجر إلى أوروبا حيث أبدع وصنع مجداً، رغم فارق التوقيت الزماني؛ إذْ يفصل بينهما أكثر من 12 قرناً، فكلاهما فرّ من حرب أهلية لا ترحم، بالأمس مذابح العباسييّن في حق بني أميّة، واليوم قتال الإخوة الأعداء في سوريا، كِلاهُما نجا من الموت بأعجوبة عندما عبر سابحاً مياهاً متلاطمة وعمره يناهز وقتها ثمانية عشر حولاً، تركتْ يسرا دمشق وغادر عبدالرحمن بن معاوية دمشق أيضاً. كِلاهُما خاطر بحياته ليعبر إلى الضفة الأخرى سابحاً لمسافة طويلة وروحه على كف عفريت، هي عبرتْ بحر "إيجة" وهو اجتاز نهر الفرات.
كِلاهُما صاحب همة عالية وطموح عزّ نظيره، حققتْ السبّاحة السورية حلم حياتها بالمشاركة في الألعاب الأولمبية نسخة "ريو دي جانيرو 2016"، وهي من احترفت رياضة السباحة منذ نعومة أظافرها، بينما حقّق "صقر قريش" حلمه ببعث مجد بني أمية غرباً بعد اندثاره شرقاً: مؤسساً إمارة قرطبة، موّحداً الأندلس ومُعيداً لها مناعتها وازدهارها طيلة فترة حكمه التي جاوزت ثلاثين سنة. لم تحصل يسرا مارديني على مدالية ذهبية في الأولمبياد مع أن المستقبل ما زال أمامها واعداً باسماً، ولكنّها حصلت على ميداليات من نوع آخر، من طراز نادر لا يعدله ماس ولا ذهب ولا دولار.
الأسطورة والواقع
لقد حققت الشابة الدمشقية حلم السوريين حين أحبّوها جميعاً رغم اختلافاتهم السياسية والمذهبية، أحبّوا بعضهم بعضا -ربما دون أن يشعروا بذلك- حين أحبّوها وأحبّوا الأمل في عينيها والإصرار الذي يسكن قلبها الصغير وهي تروي مأساتهم للعالم أجمع دون تحيز سوى للإنسان وإنسانيته. رفعت يسرا مارديني علم الأولمبياد عالياً في سماء البرازيل وأمام كاميرات الدنيا وابتسامتُها البريئة تخاطبُ أكثر من 65 مليون لاجئ مشردين في العالم لا عَلَم ولا نشيد ولا بلد يحضنهم. تحدثت يسرا فقالت: "إن مع العسر يسراً، إن مع العسر يسرا"، تحدثت يسرا إلى ملايين الناس بلغة الحلم والأمل والنور، تحدثت يسرا الفتاة بأفعالها قبل أقوالها عكس ما دأب عليه روّاد عالم الكبار من ساسة وصناع قرار، تحدثت يسرا بتعاليم الأولمبياد ونبل رسالتها منذ عهد الإغريق!
عندما تبصر حجم تفاعل الملايين حول العالم مع قصّة السبّاحة يسرا وكبير حبهم ودعمهم لها ولقضيتها من خلال مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام العالمية والمنظمات الدولية، عندها تدرك أن الأمل مشروع، وأنّ "بعد كل عاصفة حتماً هناك سلام" كما غرّدت منذ أيام ابنة الثمانية عشر ربيعاً على حسابها الرسمي على "تويتر".
هي تذكرهم وتذكرنا بأن غداً أفضل للإنسانية جمعاء، ممكن ويستحق الحلم والعمل والحياة من أجله، صنعت قصة يسرا مارديني أسطورة من طراز فريد تتجاوز في دلالاتها وحيثيّاتها أسطورة "صقر قريش"؛ لتعانق سماء العالمية وفضاءها الرّحب و"روحها الرياضية"، ومن منا يستطيع أن ينسى اسم البحر الذي تعطّل في عرضه قاربُ يسرا والعشرين لاجئاً على متنه؟! بحر "إيجة" الذي خلّدته الميثولوجيا الإغريقية من خلال مئات الأساطير والملحمات الشعرية الجميلة التي ما زال الفنّانون والمبدعون المعاصرون يستلهمون منها في أعمالهم الحديثة رغم مضي آلاف السنين عليها!
ولا أدلّ على ذلك من أوبرا "الوحش في المتاهة" Le Monstre du Labyrinthe/The Monster in the Maze للمؤلف الموسيقي البريطاني "جوناتان دوف" Jonathan Dove التي شارك في أدائها حوالي 250 مغنياً من مختلف الأعمار والأجناس على خشبة كل من أوركسترا برلين ومرسيليا ولندن خلال عام 2015، وأخيراً في مدينة ليل شمال فرنسا صيف 2016، يحكي هذا العمل الدرامي والموسيقي الضخم بلغة رمزية آسرة تراجيديا المهاجرين الأزلية وموتهم الجماعي شبه اليومي في أعماق المتوسّط، ويحاول القائمون على هذا النوع من فنّ الأداء الحيّ أن يُحيوا "الحلم الأوروبي" المبني على قيم الأنوار وحقوق الإنسان، مستلهمين من الأسطورة اليونانية الشهيرة حول معركة الأمير الشاب الأتيكي "ثيسيوس" Theseus.
البطولة مؤنثة
تُجسدُ هذه الأسطورة اليونانية الصراع بين ثنائية الحلم/النور/الشباب/الأمل/المستقبل/الحب من جهة، والبؤس/الظلام/العجز/اليأس/الماضي/الكراهية من جهة أخرى، فبانتصار الشاب الحالم والشجاع "ثيسيوس" على الوحش/المسخ "المينيتور" Minotaur والقضاء عليه داخل سراديب المتاهة يُوضعُ حدُّ أخير لرحلة المعاناة عبر بحر "إيجة"؛ حيث كان يُرسل كل عام بثلة من شباب وفتيات "أثينا" (يناهز عددهم عدد من كانوا على متن قارب يسرا المُبحر من تركيا إلى اليونان) في سفينة تحمل شراعاً (علماً) أسود، حِداداً على أرواحهم، إلى جزيرة "كريت" ليُرمى بهم في "قصر التيه" قرابين يفترسها "المينيتور". بفضل شجاعة وحكمة "ثيسيوس" عادت الحياة والفرحة والأمل (والديمقراطية) إلى أثينا. في مياه نفس البحر نجا بأعجوبة أيضاً شباب آخرون في زمان مختلف عندما تعطّل قاربهم الصغير فقفزت عنه يسرا وأختها سارّة وامرأة أخرى لجرّه بمن فيه (حوالي عشرين لاجئاً سورياً وصومالياً) سابحات هن الثلاثة زهاء ثلاث ساعات في مياه باردة حتى أرسين بهذا الجسم المطاطي على شاطئ جزيرة "لسبوس" اليونانية.
فضاء بحر "إيجة" يعانق فضاء كبيراً وعريقاً وزاخراً بمدن المعاني وسيمياء الحضارة وعبق الذاكرة الإنسان. هذا الفضاء الممتد من تركيا شرقاً، مروراً بحوض المتوسط وصولاً إلى مضيق جبل طارق غرباً؛ حيث عبر خلسة ذات صيف (يسرا عبرت سابحة صيفاً إلى أوروبا) فارسنا عبدالرحمن الأول ليعيد هو أيضا الأمل إلى مئات ألوف الأندلسيين الذين أنهكتهم ويلات التشرذم والتناحر والقتال الداخلي!
فضاء بحر "إيجة" هو امتداد طبيعي لأولى حضارة إنسانية أسّسها أسلاف يسرا من الفينيقيّين الذين جعلوا من سوريا منطلقاً لنفوذهم منذ آلاف السنين قبل الميلاد. أجداد يسرا من الفينيقيين السّاميّين الكنعانيّين كانوا بحّارة مهرة وتجاراً بارعين حيث شيّدوا أول المراكز التجارية على ضفاف المتوسط وطوّروا علوم الملاحة واخترعوا الأبجدية (العربية). إنّ يسرا مارديني عنقاء في القرن الحادي والعشرين، إنّها طائر فينيق يحترق فيموت ثم يولد قوياً وجميلاً في تحدٍّ سافر لقانون الفناء السرمدي. كان إسهام الفينيقيين في نهضة الإنسانية حاسماً وكذا ستكون بصمة يسرا على حياة ملايين أطفال اللاجئين الذين تمثّلوا في صورتها أحلامهم وشجّعوها هي وكل أعضاء فريقهم العشرة طيلة فعاليات الأولمبياد وهم يشاهدون العرس البرازيلي الأولمبي على شاشات كبيرة نصبتها المفوضية السّامية للاجئين في كبرى مخيمات للجوء في العالم في كينيا والهند وفلسطين وتركيا ولبنان. وباختصار فإن حكاية يسرا تتقاطع مع أساطير جميلة يتعانق فيها الشرق والغرب عناقاً ملؤه الأمل والإرادة وحب الحياة.
غير أن حكاية يسرا أضفت معنى جمالياً فريداً على جميع تلك الأساطير حين صبغتها بتاء التأنيث ونون النسوة وكأنها تبث الروح في مقولة خالدة للشيخ الأكبر الفيلسوف والصوفي الأندلسي محيي الدين بن عربي (المولود في أوروبا/مُرسية 1164 والمتوفى في الشام/دمشق 1240م) حين أكّد "أنّ كل ما لا يؤنث لا يعول عليه"!
"وحدة الوجود"
وأخيراً ماذا عساني أن أقول ليسرا وأنا الشاب الموريتاني المقيم في منفاه الاختياري بفرنسا على بُعد مرمى سفرة قطار من الصقران: من برلين حيث تقيم "صقرة قريش" ومن قرطبة حيث يرقد جدها -وجدي ربما-: "صقر قريش" عبدالرحمن بن معاوية؟ ما يُسْليني قليلاً هو أني ولدتُ وترعرعتُ في وطن انطلق منه رجال لبّوا نداء أندلس جريحة أنهكتها حروب دويلات الطوائف فمدّوا في عمرها العربي الإسلامي أربعة قرون. وأعني هنا بوطني شنقيط: أرض المنارة والرباط وبلاد المليون شاعر وأرض الملثمين ومهد المرابطين. موريتانيا بلد العرب والأفارقة والبرابرة، أخوال عبدالرحمن الأول الذين وجدهم في المغرب الأقصى ملجأ وسنداً مكّنه من استعادة عرش أجداده في إسبانيا الإسلامية. ولا أدلّ على تعقد العلائق وعمقها من الرجوع إلى الاشتقاق الروماني اللاتيني لكلمتي "موريتانيا" Mauritanie و"الموريسكيون" Mauresques.
وشائج التاريخ تبهرنا وتخبرنا أن مصيرنا مشترك مهما تباعدنا جغرافياً أو سياسياً أو وجدانياً ومهما اختلفت السّحنات واللّكنات. ولا يقدرُ على تصوير قرب البعيد القريب منا إلا كاميرا الشعر -والشعر هو ديوان العرب- خاصة عندما يمسك بالمصورة شاعر سوريا العظيم نزار قباني. ترن الآن في أذني قصيدته الرقيقة "في مدخل الحمراء"، مخاطباً دليلته الإسبانية -الغرناطية- بلغة لا تعترف أبداً بالحدود. إنها لغة التاريخ وذاكرته ورموزها الغزيرة والمتشابكة، ولكنّ رنين قصيدة "ميسون" يحتل بقوة ناعمة المكان والزمان مُدوياً في مسامعي:
يا ابنة العم والهوى أموي ** كيف أخفي الهوى وكيف أبين؟!

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى