من المؤسف جدا أن هذه الجهود العظيمة التي تبذلها الدولة في خدمة الحرمين الشريفين يتم أحيانا تشويهها باجتهادات فردية، أو بفتاوى متشددة أخذت بجوانب ضيقة لم تراع مقاصد الشريعة الواسعة، ولا خصوصية المكان وقدسيته وأعني بذلك "الحرم المكي الشريف".
وهذا ما عايشته بنفسي مرتين خلال هذا الشهر، ورأيت كثيرا من المشاهد التي تحتاج من "رئاسة الحرمين" إلى أن تعيد النظر في تعاملها مع النساء داخل صحن الحرم الشريف.
ولتوضيح الصورة فقد اصطحبت والدتي إلى الحرم في نهاية الأسبوع لنصلي المغرب والعشاء في رحاب الحرم الطاهر، وقد اعتادت والدتي حفظها الله أن تأخذ معها أدويتها وقليلا من العصير أو التمر لمواجهة تداعيات انخفاض "السكري" خاصة أن الوقت يطول هذه الأيام بين صلاتي المغرب والعشاء، وقد دخلنا في المرة الأولى لصحن الحرم قبل المغرب بنصف ساعة تقريبا وكنت حريصا على أن أكون بجوارها نظرا لظروفها الصحية، وحين حانت صلاة المغرب كان المكان الذي بجوارها مملوءا بالنساء والمكان الذي جهتي مملوءا بالرجال في تنظيم تلقائي تشكل من دون توجيه من أحد، لكن هذا التنظيم التلقائي لم يكتمل حتى تدخل مجموعة من الموظفين يرتدون الزي الوطني "والبشوت التقليدية" وهم يرددون "الصلاة في الخلف يا حاجة" وسط مقاومة شديدة من النساء وبعض الرجال الذين كان يشكل معظمهم عائلة واحدة اختاروا الصلاة بقرب بعضهم بعضا، ورغم توسل كثير منهن أن يبقين في أماكنهن إلا أن الموظفين رفضوا حتى جاء الدور نحو والدتي فأصروا على إخراجها وإعادتها إلى الخلف ولم تنفع كل نقاشاتي معهم، وقد كنت في غاية القلق حين غادرت والدتي إلى موقع خلف صحن الحرم عبارة عن "قبو" لم يكتمل ترميمه تم حشر كل النساء فيه بإصرار تام من الموظفين الذين لم يتبين لي لأي جهة ينتمون هل هم "لرئاسة الحرمين" أم "لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر".
وشاهدت بنفسي غضب النساء واحتجاجهن وتوسلاتهن بأن يبقين قريبا من أزواجهن أو أطفالهن ولكن دون جدوى، وهناك نساء غير عربيات كن في خوف وارتباك في ظل عدم قدرتهن على التفاهم باللغة العربية مع الموظفين.
والحقيقة أنني أجهل سبب هذه التصرفات والإصرار على عزل النساء وقت الصلاة فصحن الحرم كان واسعا ويستوعب الجميع وصفوف النساء كانت في الأصل معزولة وفي زوايا متباعدة عن مزاحمة الرجال.
انقضت صلاة المغرب وظللت أبحث عن والدتي حتى وجدتها وسط الجموع، وقد شكت لي من ضيق المكان، وقلة الهواء، ورائحة مواد البناء الذي لم يكتمل، ولم تشعر بالراحة إلا حين عدنا مرة أخرى "لصحن الحرم" في روحانية جميلة حتى جاء وقت صلاة العشاء ثم عاد الموظفون أنفسهم لتكرار إخلاء النساء من الصحن وسط الضجيج والاحتجاجات نفسها.
ورأيت بنفسي فتاة تطلب منهم السماح لها بالبقاء بجوار والدها المسن ولكن لم يستجب لها مثلما لم يستجيبوا لي، لكن اللافت كان احتجاج زائرة اختارت مواجهة مع الموظفين على طريقتها.انتهت الصلاة وغادرنا الحرم وعدت إليه بعد أسبوعين تقريبا برفقة والدتي ووجدت الأمر نفسه يتكرر مع كل صلاة، ليثير امتعاض أغلب الزائرين من خارج المملكة وقد أوقد في ذهني كثيرا من الأسئلة حول اجتهاد هؤلاء الموظفين هل هو فقهي، أم تنظيمي؟، ما مبرر ذلك؟ وما زاد حيرتي أنني بحثت في المسألة فلم أجد نصا شرعيا يلزم بذلك سوى الحديث الصريح الذي ينص على أن تكون صفوف النساء خلف الرجال، وهو أمر كان متحققا في صحن الحرم فالنساء كما ذكرت اخترن الزوايا الأخيرة من صحن الحرم ولم يكن خلفهن أحد، ولم يستدع الأمر إخراجهن وعزلهن في الأقبية كما رأيت، والمفاجأة كانت بالنسبة لي فتوى الشيخ العلامة ابن عثيمين رحمه الله الذي ذكر أن الأمر فيه سعة حتى لو اختلطت صفوف الرجال بالنساء في الحرم نظرا لطبيعة المكان، فقد سئل الشيخ: عن بعض الرجال في المسجد الحرام يصفون خلف صفوف النساء في الصلاة المفروضة فأجاب رحمه الله: "إذا صلى الرجال خلف النساء: فإن أهل العلم يقولون لا بأس، لكن هذا خلاف السنة؛ لأن السنة أن تكون النساء خلف الرجال، كما هو مشاهد في المسجد الحرام يكون هناك زحام وضيق، فتأتي النساء وتصف، ويأتي رجال بعدهن فيصفون وراءهن، وهذا جائز حسب ما قرره الفقهاء ولكن ينبغي للمصلي أن يحترز عن هذا بقدر ما يستطيع، مجموع فتاوى ابن عثيمين" (13/19).
وطالما أن الأمر فيه سعة والحمد لله، فأكرر رجائي لمنسوبي رئاسة الحرمين وهيئة الحرم أن يعيدوا النظر في تلك الأساليب المنفرة التي تضررت منها الزائرات ولا تتناسب مع جهود الدولة العظيمة في خدمة زوار بيت الله الحرام.