هل يمكننا أن نتنبأ بالمستقبل الثقافي، كما نتنبأ بالأحوال الجوية؟
وهل يمكننا قياس الثقافة، كما نقيس العلوم التطبيقية؟
إذا حاولنا استشراف الآتي، فما المجالات الثقافية التي يمكن أن تزدهر، أو تندثر؟ وهل نملك غير توقُّعيَن، لا غير، هما الأصولية الثقافية، والعولمة الثقافية؟
وإذا كنا من حزب الوسط فإننا نتوقع مزيجا ثقافيا منهما!
برز في الآونة الأخيرة كُتَّابٌ ومفكرون يتنبأون بقرب اكتساح (الثقافة الأصولية) لمجتمعاتنا العربية، اعتمادا على مجموعة من الاستقراءات السريعة، المتمثلة في الإرهاب الذي تمارسه جماعاتٌ عديدة، تنسب نفسها إلى العقائد الدينية، هؤلاء الكتاب اعتقدوا بأن الجماهير الخائفة، التي تشايع الإرهابيين الأصوليين بلباسها، ونمط حياتها، المفروض عليها، اختارت بمحض إرادتها، هذه الثقافة الأصولية!
الحقيقة، أن كل نواتج الخوف دائما لا تُسلك ضمن الثقافة، فهي حالة طارئة، تنتهي بانتهاء حالة الخوف والرعب.
كما أن ما يُطلق عليه، الثقافة الأصولية، غايتها القصوى، الانتقام والتدمير، لهدف سيادة عنصرٍ واحدٍ، ورأي واحد، هذا الهدف لا يبعدها فقط عن الثقافة الصحيحة، بل يجعل المتنبئين بقرب اكتساحها لعالمنا العربي، يقومون، من حيث لا يدرون، بمهمة التبشير لها، قائلين:
هذا هو مستقبلكم فاركبوا الموجة!
من المعروف أن للثقافة غاياتٍ نبيلةً، أرفعها وأسماها، تنقية النفوس من الانتقامية والتدميرية، لعل هذه الغاية هي التي تفرق بين الثقافة الحقيقية، وبين مشابهات الثقافة، فالثقافة تعني في لغتنا( التهذيب).
تنبأ بعضُ المفكرين بزوال الثقافة العربية، أو بقرب زوالها، وعزوا نبوءتهم إلى غيرتهم على ثقافتهم، واستطلاعهم لما آلت إليه الثقافة في عصرنا هذا، وإلى اضمحلال اللغة العربية، التي هي أداة الثقافة، وأرجعوا نبوءتهم إلى ضعف المستوى التعليمي، وانصراف أهل الثقافة عنها، هؤلاء أيضا لا يختلفون عن الفريق الأول، في أنهم يدفعون النشء للسفر المادي والمعنوي للبلاد الأجنبية، طلبا للثقافة الأجنبية!
هؤلاء المنفرون من ثقافتنا العربية تناسوا بأن الثقافات الأصيلة كما الألماس، لا تحول، وإن اختفت عن الأنظار، فهي تحتاج إلى منقبين أكفاء، قادرين على إزالة شوائبها، وإعادة صياغتها من جديد في قوالب عصرية، قادرة على التحدي، ومزجها بخليط ملائم للعصر!
أزمتنا الثقافية هي أزمة مثقِّفين، بكسر القاف. اختصر حافظ إبراهيم جوهر المشكلة في بيته الشهير، قائلا على لسان اللغة: أنا البحرُ في أحشائه الدر كامنٌ....فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي؟
ساهمت العولمة في تعزيز نبوءة المنذرين بانتهاء عصر الثقافة العربية، فلا مجال في عصر العولمة لثقافة المتون، والشروحات، والتصانيف الشعرية، والقواميس المملوءة بالحركات الرياضية للأشداق والألسن ، فهي جميعها لا تُجيز لروادها ولوج عصر العولمة، العصر الفائق السرعة، لنقل المعلومات.
إن عملاء العولمة من العرب يستشعرون كيف أزالت العولمة من التراث الأوروبي كلَّ الحشو، وألبست ثقافتها لباس العصر، وعجنت من دقيق قدماء مفكريها طعاما سائغا لأبنائها، وأبناء أبنائها في شكل موسوعات كمبيوترية جذابة، ففتحوا شهية أبنائهم نحو تراثهم، أما نحن المثقفين فاكتفينا بأن نقف على أطلال تراثنا، نشق الجيوب، نندب حالنا، واكتفينا أخيرا بالتنبؤ، وكأننا ننتظر مُخلِّصا منتَظرا، يأتي لنا بالبشارة السماوية، بثقافة المن والسلوى العربية!!
من جهةٍ أخرى، شرع كثير من مثقفينا في قراءة كف الثقافة، وكتابة الأحجبة والوصفات الطبية، هروبا من عجزهم في مجال الإبداع الثقافي، كما وقف كثيرٌ من مفكرينا ومثقفينا عاجزين عن مواجهة الشائعات المصاحبة للعولمة، وهي، لا وجود لثقافة خارج إطار ثقافة العولمة التقدمية، فالثقافات الأخرى رجعية تقهقرية.
فلا خيار أمام المثقفين سوى طريق واحد، هو أن يكونوا مثقفين عولميين.
أمام ثقافتنا العربية طريقان، أن تَخضعَ ثقافتُنا صاغرةً ذليلة ، وتدخل بيت الطاعة العولمي جاريةً، وتصبح ثقافة وظيفية، مُهجَّنة، تؤشِّر فقط إلى أزياء منتجيها، ومواقعهم الجغرافية، خالية من باعثات الفكر والإبداع، هذا يُشير إلى بداية ظهور المثقف القشري العربي، ويكون الشبه بينه ، وبين المثقف الحقيقي كالشبه بين القرد والإنسان! وإما أن يلجأ المثقفُ العربي إلى الثقافة التقليدية الاتباعية، وهؤلاء سيستفيدون من الخلخلة النفسية، الناتجة عن العولمة، التي تؤثر بشكل مباشر في النشء العربي.
هؤلاءِ، ليسوا مثقفين بالمفهوم الأكاديمي الصحيح، بل إنهم في الغالب محبطون يائسون لم يجدوا لأنفسهم مكانا في قطار الحياة، فجعلوا الثقافات تعازيمَ، ورُقى، واعتبروا المثقفين هم فقط حافظو القصص والروايات، والأشعار!
أستشرف بأن قرنا آخر سيمر دون أن نتمكن من صياغة مستقبل ثقافي عربي نهضوي.
إنَّ المستقبلَ الثقافي يُقاس بمقدار استخلاص العسل من التراث، وهذا لا يُنجز إلا بجهودٍ من مؤسسات ثقافية كبرى، تتولى غربلة التراث، وتحليله وفق عصره، ثم استخلاص عسله وتعبئته في جرعات جذّابة ومركزة، تلائم عصر العولمة.
يعود سببُ تشاؤمي هذا إلى رؤيتي ومتابعتي للبرامج التعليمية، المدرسية والأكاديمية، فهي قاصرة، ومنفِّرة! إن أنظمة التعليم هي البذورُ الرئيسة لإنتاج شجرة الثقافة العربية، إن إثمارها يعتمد على الجهد المبذول في رعايتها، واختيار الفسائل المناسبة، الصالحة لطبيعة الأرض والمناخ!