"1"
المكان: القاهرة
الزمن: 2009
أجلس مع زميلات السكن في ليلة خميس من ليالي نهايات صيف 2009 في غرفة إحدانا لنتسامر، تهب النسمات العليلة من الشباك الصغير المجاور للدولاب، المطل على بيت قديم، نحتسي أكواب الشاي الثقيل الذي تُعده "ن"، تلك الفتاة الصعيدية الجميلة التي لم أرَ مثيلاً لها في "الجدعنة"، عيبها الوحيد هو أنها تأبى أن تُعد الشاي على حسب أذواقنا المتناقضة فيه، بل تجعل كل كوب أثقل مما سبقه؛ لأنها تعودت عليه هكذا في الصعيد، وتستعيض به عن حنينها الجارف لبلدتها هناك.
تدور الأكواب واحداً تلو الآخر، تتخللها قزقزة بعض اللب السوري، وكأي جلسة بنات لا يعرف فيها الكلام نهاية أبداً، أخرجت كل واحدة ما في جعبتها من حكايات خاصة بها، سواء كانت مُوجعة أو مُبكية أو مثيرة أو مضحكة، فلدى كل فتاة مصرية مغتربة أو مستقلة اجتماعياً عن أسرتها الكثير من الحكايات!
تتقافز "ع" كعادتها مُصرة على أن تحكي لنا حكاية من حكاياتها المضحكة، فجعلتنا نضحك حد البكاء، وتعالت أصواتنا بالضحك بعض الشيء؛ لنجد فجأة صوت صياح عالياً لرجل يصدر من الشباك المجاور لشباكنا، فنكف عن الضحك ونرهف السمع ظناً منا أن هناك مُصيبةً ما.
"يا شوية عاهرات مالقوش رجالة تربيهم، ما كل واحدة تلم نفسها وتبطل مياصة ووساخة وضحك، شوية بنات عاهرات سايبين أهلهم وجايين يدوروا على حل شعورهم هنا ويقرفونا، بتضحكوا على إيه جاتكم الهم؟!".
هكذا تعالت صيحاته، متبوعة بألفاظ أكثر شناعة وفظاعة...
جعلنا السُّبابُ واجماتٍ، لم تنطق أي واحدة فينا، ظللنا على وضعنا هذا كتماثيل متحجرة إلى أن تلاقت عيني مع عين "ن"؛ لأجدها متخمة بالدموع التي ترغب في النزول بشدة على خديها السمراويين لكن يمنعها الإباء، فاحتضنتها، لتنفجر في نوبة بكاء هستيرية.
بعد أن استوعبنا الموقف، ثارت حميتي كالعادة، واقترحت عمل محضر سب وقذف، فهدأت "و" من روعي واقترحت أن يذهب وفد منا صباح الغد لصاحبة العمارة ليحكي لها ما حدث ويستشيرها فيما يجب عمله.
انصرفت كل إلى شؤونها، إحدانا تتحدث مع أهلها بنبرة مختنقة بالبكاء تحاول بها قدر الإمكان أن تحافظ على رباطة جأشها، علها تستمد من تلك المحادثة القصيرة بعض الدعم والشجاعة والقوة للاستمرار في البُعد، وأخرى تعد طعاماً يكفي 5 أشخاص لتأكله وحدها، علَّها تجد في الطعام ونيساً لها، وهذه تضع السماعات لتستمع إلى بعض الموسيقى، أما أنا فكنت أشعر باختناق شديد، دفعني إلى الخروج للتنزه قليلاً على كبري الجامعة القريب من مسكني، حيث النيل، الشيء الوحيد الجميل في القاهرة!
يعود الوفد في اليوم التالي بأخبار لا تسر، فقد أخبرتهم صاحبة البيت أن أي خطوة متهورة كمحضر السب والقذف قد تجعلنا في متناول يد هذا الرجل وصبيان ورشته التي توجد على أول شارع منزلنا، فلن تسلم الواحدة منا من التحرش أو الانتهاك اللفظي والجسدي بأي شكل، وإذا اتُهم أحدهم سيثأر له الآخر، ولذلك علينا فقط أن ننسى الواقعة كأنها لم تكن، وألا نضحك مجدداً حتى لا نسبب الإزعاج لأحد.
تفرق الجمع بعد سماع ما لدى الوفد ليقوله، وكأنه كان اتفاقاً ضمنياً على السكوت، كنا حديثات السن، خائفات، ووحيدات، فصمتنا، لكن جروح الصمت لا تندمل أبداً.
"2"
أتصفح الفيسبوك كعادتي، فإذا بي أجد منشوراً لفتاة تلعن فيه اليوم والساعة اللذين جاءت فيهما كفتاة لهذا البلد المشؤوم، حيث تعيش هي وصديقتها كفتيات مستقلات اجتماعياً ومادياً، تعملان لتجلبا لقمة عيشهما، ويتطلب عملهما العودة ليلاً في ساعة متأخرة بسبب "شيفتات" الليل، فثار حماة حِمى الشرف من رجال المنطقة، وذهبوا إليهما في منزلهما صباحاً لتهديدهما وتروعيهما؛ لأنهما -بحسب آراء حماة الفضيلة هؤلاء- تفسدان سمعة الشارع وتمارسان الرذيلة، فجرجروهما في الشارع بملابسهما المنزلية وسط صيحات تندد بأخلاقهما وتسبهما بالعُهر، وتم التحفظ عليهما لحين إبلاغ بوليس الآداب -لا أعرف بماذا أصلاً-، وفي أثناء انتظار البوليس عُرِض عليهما ممارسة الجنس مقابل "إخلاء سبيلهما".
أغلقت الفيسبوك بأكمله، خوفاً من البحث خلف الموضوع، فلم يستوعب عقلي سوى سيناريوهين، أحدهما الضرب والسحل والآخر الاغتصاب.
عاد إليّ نفس شعور تلك الليلة منذ أربع سنوات مضت، الخوف، والقهر، والرغبة الشديدة في الإنكار.
"3"
يُعامل أغلب المجتمع -وليس كله- المرأة المستقلة على أنها عاهرة، سواء أكانت مستقلة اجتماعياً أو مادياً أو كليهما؛ لأنه يهابها، يهاب حقيقة أنها ما إذا استقلت -خاصة مادياً- ستصبح سيدة قرارها، ستتعلم وتعمل وتكبر وتزهر ولن تحتاج إلى رجل ليلعب دور المرشد الروحي في حياتها، يهاب أن تمتلك نفسها وتخرج من ملكيته، فلا يستطيع السيطرة عليها من جديد، فيحرص كل الحرص على أن يضعها في تابوه جنسي مُحدد، تابوه العاهرات، ليخرج علينا أحدهم فيخبرنا كم أن الاستقلال المادي والاجتماعي للمرأة يخالف تماماً مبادئ قوامة الرجل على المرأة، ويهد منطلقات المجتمع القيمية الفاضلة، ويمس بشرف الأسرة، ويسبب النشوذ والعهر، فقط لأنه يهابها، لا لشيء آخر!
فلو كان قد أمعن نظره قليلاً في الأمور، لرأى أن القوامة لا تعني ألا تصبح المرأة ذات ذمة مالية مستقلة، ولا تمس كيانها ولا تمحي شخصها بأي شكل، ولرأي إن الذي يهد قيم المجتمع وفضائله فعلاً هو الاغتصاب والانتهاك والتحرش في الشارع والمنزل والعمل، وإن لف حبائل شرف المجتمع حول عنق المرأة دائماً واختزاله في جسدها وعقلها ونعتها بالعاهرة لو تجرأت ومزقت هذه الحبائل هو التفسير الوحيد لقناعاته المبهرة حول المرأة المستقلة، وإلا ما الذي يضيره في أن يعمل إنسان ويكسب قوت يومه؟!
"4"
عرفت مؤخراً أنه تم تأسيس بعض المبادرات النسوية من أجل دعم الاستقلال المادي والاجتماعي للمرأة، أهمها وأكثرها تعرضاً للنقض هي مبادرة "فيمي. هاب"، ولذك تحدثت مع إحدى مؤسساتها، الناشطة النسوية سُهيلة محمد، مُستفسرةً منها عن كيفية تأسيس المبادرة ودورها الفعّال في دعم استقلال المرأة والمشاكل التي تواجهها من المجتمع.
تقول سهيلة إن الفكرة واتتها حين عادت إلى منزلها بالقاهرة -الذي كانت تتشاركه مع فتيات مغتربات ومستقلات- لتجد زميلتها في السكن تبكي؛ لأن مديرها في العمل تحرش بها، وليس لها مصدر رزق آخر، فقررت أن تفعل شيئاً من أجل شريحة الفتيات والنساء المستقلات -وهي شريحة ضخمة مُهملة من المجتمع؛ لأن أغلبه يرفض الاعتراف بها رغم ظهورها بقوة بعد الثورة- نظراً لما يواجهنه من مشاكل تختلف عن مشاكل أي فتاة أخرى، مثل مشاكل العمل والبحث عن سكن ملائم فضلاً عن الحاجة إلى دعم نفسي ومعنوي كبير؛ لأن الغالبية تواجههن بالرفض والعنف ولشعورهن الدائم بالوحدة.
بدأت سهيلة المبادرة مع صديقتين نسويتين هما مي وسارة، وقررتا مساعدة الفتيات المستقلات في إيجاد فرص عمل مناسبة وسكن مناسب، كما قررتا توفير دعم نفسي لهن من خلال اقتراب تؤمن به المبادرة، وهو أن تجميع عدد كبير من الفتيات يعانين من نفس المشكلة تحت سقف مبادرة واحدة سييجعلهن يوفرن لبعضهن الدعم النفسي والمعنوي والمساندة المرجوة والمطلوبة، وقد أثمر هذا الاقتراب فعلاً، فقد ساعدن بعضهن البعض، واستضفن بعضهن البعض في بيوتهن لحين توافر سكن، وبحثن لبعضهن البعض عن وظائف، ووفرن لبعضهن الدعم النفسي في كثير من الأحيان.
تعرض المبادرة نوعاً من النصائح للمستقلات، وتقول سهيلة إنها نصائح وليست توصيات؛ لأن المبادرة تحترم الاستقلال الشخصي ولا تفرض آراءها على أحد، كما تحرص على تثبيت مبادئ الحفاظ على الأمان الشخصي للفتيات.
فعّلت سهيلة وصديقاتها للمبادرة صفحة على موقع الفيسبوك، وكانت النتيجة غير متوقعة! حيث صدمتهن أعداد المشاركات في الصفحة، وكان التضامن بين الفتيات مبهراً جداً.
تعرض الصفحة قصصاً لفتيات مستقلات، لتتحدث من خلال هذه القصص عن المعاناة التي تواجه الفتاة المستقلة، وتصحح الأفكار المغلوطة المأخذوة عن صورة الفتاة المستقلة بأنها امرأة منحلة أو عاهرة؛ حيث توضح كيف تعمل الفتاة من أجل كسب عيشها وكيف تعتمد على نفسها.
كما تحاول المبادرة مساعدة الفتيات على تخطي ما تصنعه بهن العقبات الأسرية من رفض الأسرة لسفر الفتيات للعلم أو للعمل، فهذا الرفض يضع الفتاة في مواجهة خاسرة في كثير من الأحيان مع أهلها يستنزفها ويستنفد طاقتها ويحرمها من اكتساب خبرات جديدة وعلم جيد يمكنها من وظيفة ملائمة في سوق العمل، ويجعلها غير قادرة على مواصلة الاجتهاد، ومن ثم فإن المبادرة تدعم حرية حركة الفتيات ورغبتهن في الانطلاق للعلم والعمل والسفر.
بدأت المبادرة في عمل جلسات حكي وتدريبات جديدة وورش عمل للفتيات، في الشهر القادم ستستضيف فتيات حققن نجاحات مختلفة في مشاريع من ابتكارهن لتستفيد غيرهن من تجاربهن وتتعلمن كيفية إدارة مشروع ليصبح مصدر دخل آمناً لها.
وتضيف سهيلة: "من أهم التحديات التي نواجهها هي وصم أغلب المجتمع لنا بالعُهر، واتهام الصحافة لنا بأننا نروج للانحلال ونحرض على تفكك الأسرة، فضلاً عن الاختلاف الثقافي والأيديولوجي بين الفتيات تحت ظل المبادرة والذي يسبب اختلافات سحيقة قد تؤدي إلى مشادات في بعض الأحيان، هذا بالإضافة إلى خلط المجتمع بين استقلال المرأة وبين تصرفات الفتيات الشخصية، وهو ما يجب أن يتوقف لأن المباردة لا تُعنى من قريب أو من بعيد بأسلوب حياة الفتيات، وإنما بحاجتهن للاستقلال وتحقيق كيانهن المادي والعلمي والعملي، إلى جانب عدم وجود تمويل داعم لنشاطات المبادرة، فنحن ننفق عليها من أموالنا الشخصية، كما أن العديد ممن تعرضن لعنف أسري وجنسي يلجأن إلينا لمحاولة الاستقلال، لكننا لسنا متخصصات في توفير الدعم النفسي اللازم للمُعنفة".
"5"
يُقال إن الإنسان يعادي ما يجهله، لربما يساهم الجهل بحياة الفتاة المستقلة أو المغتربة في ترسيخ صورتها كعاهرة تعيث في الأرض فساداً في نظر أغلب المجتمع، يُخيل لي أن هؤلاء المستقلات بحاجة إلى نظرة متمعنة فاحصة لنمط حياتهم المملوء بالعنف غير المبرر؛ ليدرك من يزدريهم بالمجتمع أن العيب ليس فيهن، بل في من سولت له نفسه؛ لأن يعتبر كفاحهن عُهراً.