لا أحد ينكر ريادة التلفزيون الحكومي المصري منذ 1960. كانت مذيعاته الأوائل (ليلى رستم ونجوى إبراهيم وغيرهما) أشبه بنجمات عربيات تتابع أخبارهن كل صبايا شرق الوطن العربي وغربه. لكن هذه الشاشة العربية الأهم لعقود، أيام المد القومي لجمهورية عبد الناصر، أصابها ما أصاب مصر عبر السنوات الأخيرة من إنكفاء إقليمي وشلل بيروقراطي، جراء إنسحاب الجمهور عنها لمصلحة قنوات الإعلام الخاص الجديد، التي عرفت – على نحو نسبي على الأقل – أن تستقطب الجمهور بطرق مختلفة، فتحولت شاشة مصر الأولى مع مرور الأيام إلى مجرد مؤسسة قطاع عام أخرى تعاني ما تعانيه معظم المؤسسات المصرية من ترهل وجمود.
حاولت السلطات أن تفعل شيئاً لتصحيح مسار التراجع عن طريق تولية شخصيات مختلفة أدوار القيادة في التلفزيون، لكنها أخطأت فيما يبدو في جل خياراتها بدليل أن التراجع استمر متقهقرا حتى وصوله إلى حد الجفاء القاسي في بلد الـ 85 مليون بين الجمهور وشاشته المركونة على رف الذكريات.
الكرة اليوم في ملعب السيدة صفاء حجازي رئيسة قطاع الإذاعة والتلفزيون، وهو منصب كان له شأن كبير على الأقل قبل مرحلة انفلات القنوات الفضائية في السماوات المفتوحة. وكما هو الحال في كل إدارة جديدة فإن السعي لعمل شيء – أي شيء- دفع بالسيدة حجازي إلى إصدار قرارها الأخطر الذي تناقلته صحف ومجلات العالم كله: وقف معلن لثماني مذيعات عن الظهور على الشاشة الفضية – التي لا يشاهدها أحد – لمدة شهر كمهلة لحين تخلي كل منهن عن بدانتها الزائدة وإلا فالويل والثبور.
صدم القرار الجمهور المصري والمذيعات الثماني السمان وصدمني شخصياً. فالجمهور يعلم أن معضلات التلفزيون المصري المغرقة في الأخطاء أكبر وأعظم وأشمل من أن تحل من خلال تخفيض خصر المذيعة الفلانية أو العلانية بنمرتين ونص! فالحل العبقري لإدارة التلفزيون لم يتمخض عن أي تغيير يذكر على الشاشة المصرية الأولى سوى معدل حجم المذيعة، الذي تراجع كيلوغرامات عدة نتيجة الإخفاء القسري للثماني السمان.
بالطبع المذيعات أصبن بالصدمة فهن المسكينات موظفات في التلفزيون منذ عقود وبعضهن ورثن المهنة عن ماما أو بابا، وغالباً ما يستحيل عليهن أن يجدن وظائف في تلفزيونات أخرى لاسيما بعد سرد أحداث تعليقهن عن العمل في كل وسائل إعلام الكوكب تقريباً. هن لم يقاومن، بل انطلقن في حملة ريجيم شديدة القسوة في محاولة إنقاذ مصدر الرزق، وعبّر أكثرهن عن قبولهن بالقضاء والقدر بهدوء المؤمن المطمئن، وإن أبدين إنزعاجاً – بدا شديداً وفق ما تسمح به قواعد السلطة البيروقراطية الغاشمة – من فكرة الفضيحة «بجلاجل» التي اعتمدت في توجيههن لما فيه مصلحة البلاد والعباد.
لكن صدمتي، أنا شخصياً، فاقت صدمة المصريين جميعاً وحتى صدمة المذيعات الثماني السمان أنفسهن. إذ من حيث المبدأ كيف تجرؤ قائدة سلاح الأيديولوجيا الرسمية المصرية على التشهير بنساء مصريات محترمات – ذنبهن الوحيد أنهن سمينات بمقاييس السيدة حجازي القاسية طبعاً – بهذه الطريقة المؤلمة التي لا يختلف أحد في العالم على قسوتها بما خص أنوثة هذه النساء و صورتهن عن ذواتهن و صورتهن في عين أولادهن وأهلهن وأزواجهن. أما كان يمكن للسيدة حجازي أن تبدأ حملتها، المظفرة بإذن الله، لإصلاح أحوال التلفزيون – الذي يكاد أن يموت – بتوجيه داخلي لطيف للسيدات دون قعقعة إعلامية أو فضائح دولية؟
ألا تتمتع سيدة الإعلام المصري الأولى بخدمات مستشارين كبار على وعي وثقافة ليخبروها بأن آخر ما تحتاجه مصر الآن هو المزيد من الدعاية السيئة عن البلاد، وبالتالي استخدام أسلوب أقل إبهاراً في إبعاد الثماني السمينات من أجل سمعة أم الدنيا؟
والأمر الأهم طبعا التعامل مع المرأة السمينة بوصفها غير صالحة للعمل أو للظهور على الشاشة؟ هل مهنة التلفزيون تسويق لرموز جنسية بحتة بمقاييس محددة تعلمها فقط السيدة حجازي والراسخون في العلم؟ دعوني أحدثكم عن مذيعات الـ بي بي سي – المحلي . نجمات التلفزيون البريطاني نساء من كل الأشكال والألوان و(الأحجام) لأن الشاشة وفق فلسفة المؤسسة التي اخترعت الإعلام المتلفز ليست منصة عرض أزياء للموديلات النحيلات الفاتنات. يطل علينا كل يوم على البي بي سي مذيعون ومذيعات كثر كلهم يشبهوننا في الملابس والأشكال والانفعالات، المذيعات منهن سيدات كبيرات بالعمر تجاوزن سن الستين فيما يبدو، لكنهن قديرات ومحترفات ويمتلكن أدوات المذيع من صوت وحضور إيجابي، وثقافة لا تضاهى، ودراية بالملفات الساخنة، وخبرة في الكتابة والمناقشة والمجادلة الموضوعية، وهناك مذيعات أيضا من أصول إفريقية وهندية. مذيعات مسلمات وسيخ ويهوديات. بل إن هناك مذيعات سمينات – نوعاً ما -. خذوا هذه: هناك مذيعة يدها مقطوعة يرسخ حضورها الإنساني البديع على فكرة تخطي الجسد الفاتن إلى حدود أبعد وأعمق.
لكن الأكثر إيلاماً من هذا كله أن السيدة حجازي بعد إساءتها التي لا تغتفر لقلوب وضمير الثماني السمان وقفت تدافع بثقة عن قرارها أمام وكالات الصحافة العالمية والتلفزيونات بدلا من أن تستقيل وتترك المنصب الخطير لأحد أقدر منها على وزن الأمور.
أكان يجرؤ رجل في هذا المنصب أن يقدم على الإساءة للمرأة المصرية كما فعلت السيدة هذه؟
وفقط لاقتراف– المرأة المصرية – ذنب الجينات الموروثة التي أسلمتها للسمنة .
إن كيدهن عظيم.
الماء و الخضرة والوجه الحسن
لست أفهم حقيقة الديناميكية التي يتم على أساسها إنتاج بعض الأفلام المصرية ومشاركتها في المهرجانات الدولية. بل وحتى كيف تسمح بعض المهرجانات الكبيرة بقبول هكذا أعمال. آخر المصائب فيلم « الماء والخضرة والوجه الحسن» ليسري نصر الله الذي شارك في الدورة التاسعة والستين لمهرجان لوكارنو السينمائي في بداية أغسطس/آب. السيناريو ضعيف للغاية، الشخصيات باهتة، وتناول القضايا السياسية والاجتماعية يتسم بكثير من السطحية والافتعال. ولولا مشاهد الخضرة الجميلة وبقية من وجه حسن لحسناوات السينما المصرية، لانتهينا إلى فيلم كالماء، بلا طعم ولا لون ولا رائحة. مؤسف أن يمثّل مصر في مهرجان دولي فيلم شديد البرود وكثير التسطيح كما هذا الفيلم.
الحديث اليومي مع الريّس
يلفتك وأنت في القاهرة كيف أن كل شاشة من الشاشات المصرية الخاصة تقدم، وفي الوقت ذاته تقريباً، برامج مونولوجات شخصية لإعلاميين معروفين، لا يفعلون شيئاً طوال ساعات، وفي وقت ذروة مشاهدة التلفزيون مساء سوى أنهم يتحدثون شخصياً ومباشرة إلى رئيس البلاد. وكأن السيد رئيس الجمهورية لا هم له في مواجهة كل التحديات التي تقابلها مصر سوى انتظار الساعة المباركة لظهور أحمد موسى ومصطفى بكري وغيرهما والجلوس أمام التلفزيون للاستماع إلى أحاديث أشبه ما تكون بسواليف النساء عندما يجتمعن عند الفرن.
إرحموا الشعب وإرحموا الرئيس من هذا الهراء. أعيدوا لنا مذيعاتنا السمان أرجوكم!