انطلاقاً من نصّ «قفص» (2014) للشاعرة والكاتبة جمانة حداد، اقتبست المخرجة اللبنانية مسرحيتها التي تؤدي بطولتها رندة كعدي، مارسيل ابو شقرا، ديما الأنصاري، دارين شمس الدين وميرا صيداوي. خمس نساء عربيات سيعتلين الخشبة ليحكين عن السجن الذي وضعهن فيه النظام البطريركي
أحمد محسن
كان والد لينا أبيض يعمل طبيباً نسائياً، وكانت أحياناً تستغرب أن بعض الزائرات كنّ يقضين وقتاً «خلف الستارة» أطول مما تتوقع. وكانت تظن أن «المسألة صحيّة». لاحقاً فهِمت أنهن يقضين وقتاً أطول ليتحدثن أكثر. كنّ يرغبن بوجود شخص يستمع، وفي الوقت ذاته أردن أن يتحدثن.
وهذا ليس «صحياً» تماماً. وربما، لذلك، المرأة التي تتحدث عنها لينا أبيض في مسرحيتها «هي امرأة صريحة أكثر من كونها جريئة». إذاً، الرجل الذي تخاطبه بطلات العمل الذي كتبته جمانة حداد «قفص» (2014) هو طبيب. يخاطبنه بصراحة، وتالياً بتدرجات الصراحة، التي تصل إلى الإشهار والانفعال، وتنزلق بأريحية تامة في كثيرٍ من الأحيان إلى الغضب. ذلك الغضب الذي ينطلق من شعور يتضاعف بالقوة. عندما نقرأ نص حداد، قد نشعر بفائض من الغضب، أحياناً على حساب الأبعاد الأخرى المحفزة لخمس نساء قررن الخروج من «القفص».
في الواقع، أعادت لينا أبيض قراءة نص جمانة حداد بأكثر من طريقة، وهي تحبّ هذه النوعية من النصوص الرخوة، التي لا تملك أي مخالب. تقول إن الأمر لم يكن صعباً، أي تحويل الجرأة في معناها المجرّد التي تحوي الشك والاهتزاز، إلى الصراحة التي تحمل اليقين على متنها. كما أن الصراحة هي إعلان واضح لنهاية الخوف. بعد العرض (تصميم الملابس شربل فغالي، مصممة الديكور هنا فاخوري، مصمّم الإضاءة: علاء ميناوي، مشغّلة الإضاءة لارا نصّار)، يمكن الخروج بخلاصة أكثر تماسكاً، حول العلاقة ــ التي تبدو مترابطة ــ بين نص جمانة حداد واشتغالات لينا أبيض بهِ على الخشبة. في جميع الحالات، سنكون أمام امرأة تحاول اختيار الكلمات الصحيحة، أو مهلاً، الكلمات التي ترغب في قولها، وليست الكلمات التي يحب الرجال سماعها. إنها الكلمات التي يتوجب عليهم قولها بصراحة أيضاً، أو مهلاً، التي يتوجب عليهم سماعها، وهذا هو الوصف الأدق. وبما أننا نتحدث عن مسرح، فنحن نتحدث عن انفعالات وحواس، عن جملة وافرة من الانطباعات، التي لا يمكن تقييمها بقراءة مجرّدة للنص، وإن كانت الإشارة ضرورية إلى أن النص الذي أمامنا يحظى بالجرأة اللازمة، أحياناً إلى حد الإفراط، خاصةً في الشق اللغوي.
بشكلٍ عام، يمكن القول إن عمل لينا أبيض الجديد، يضمر شكلاً درامياً نسوياً يعترض ــ نوعاً ما ــ على المباني الهرمية المألوفة في العمل المسرحي. لكن ليس اعتراضاً عبثياً، إنما يراعي وظائف المسرح ويتماثل معها بمرونة. لا تريد المخرجة لمسرحية «قفص» أن تكون قفصاً بمساحة رحبة، داخل قفص المجتمع، تريده صادماً. تريد أن تهشم هيبة الطبيب وهيبة المجتمع، وأن ينصتا معاً إلى صوت المرأة. وطبعاً يتطلب هذا الشق الحديث عن الجمهور أيضاً. في تجارب سابقة، تفاجأت لينا أبيض بالجمهور في «مونو» أثناء عرض مسرحيتها «هيدا مش فيلم مصري». كثيرات وقفن وتحدثن عن تجاربهن من دون أن يطلب أحد منهن ذلك. لقد وجدن نوافذ، فأمسكن المقابض وأخرجن رؤوسهن. غير أن هذا الجسر الذي يبحث عنه العمل الجديد، في نصهِ الأساسي، وفي مسرحته، بين الإرث النسوي المتراكم، وبين المجتمع المحلي، قد يبدو قابلاً للتحقق.
في ختام أحد المشاهد، أو في صلبها ربما، تقول يارا المثلية (ميرا صيداوي)، لطبيبها في التمارين بنبرةٍ متمردة وساخرة: «وما تقولّيش فرويد». ونقد استخدامات الفرويدية في السائد الذكوري ليس اسقاطاً ممجوجاً، أو على الأقل نفترض أنه ليس كذلك، بل يفترض أنه متصل بسياقات صارت مألوفة في الخطاب النسوي المعاصر، خاصةً أن الكثير من الكاتبات والكتاب النسويين يرفضون الجوانب التقليدية التي بقيت معتمدة في الطب النفسي الغربي لوقتٍ طويل. ونتحدث هنا عن تفسيرات الفرويدية التي تستسهل التعامل مع المرأة بوصفها كائناً بيولوجياً، بدلاً من كونها كائناً فاعلاً سياسياً في دوائر المجتمع. وللمناسبة، المقاربة الوحيدة في «قفص»، هي مقاربة نسوية، بما يمكن إضافته إلى هذه المقاربة بسبب العلائق المتناغمة بين النسوية كنظرية وبين السوسيولوجيا، ولكن يجب حصر المقاربة النقدية بعد العرض في إطارها النسوي. وكما في النص، كما في العمل، تجزم أبيض أنه لن يكون هناك أي جموح نحو أي تفسيرات طبقية، أو زج بمناهج اجتماعية أخرى تتداخل مع الصوت النسوي في المسرحية. يجب أن يكون صوتاً مسموعاً بلا شوائب، وعلينا هنا أن نتجاهل التفاوت العمري بين البطلات: لمى (العانس)، هبة (المومس)، يارا (المثلية)، زينة (المنقبة)، عبير (الممتلئة)، والرجل الوحيد، الذي سيرتدي ثياب امرأة هو الآخر.
حتى الآن تبدو الرحلة سهلة، غير أن نص حداد مليء بالأفخاخ، للقارئ، وللمسرحية وبطلاتها، وللجمهور أيضاً. ربما كان كذلك بالنسبة لحداد نفسها، التي تقول إنها السجن والسجانة في آن، قبل الحرّية وأثناءها وحتى بعدها. يتقاطع قول الكاتبة مع قول المخرجة التي ترى أن العمل يدور حول الجسد والرحم. وهذا التقاطع بحد ذاته فخ، بالنظر إلى طبيعة المتلقي المعقدة، والأهم، صعوبة نفي أي انطباعات قد تميل إلى توأمة المرأة مع الجسد، بدلاً من إعلان الحريّة شرطاً للجسد وللوجود. يمكن أن يعرّض هذا العمل إلى نقد ذكوري وتافه، وأيضاً إلى آخر جدّي ونسوي. لكن العمل الفني ساعتان، ولا يمكن معالجة كل شيء في ساعتين. فليكن العمل صادماً. الجسد هو القفص، وهو مدخل الخروج من القفص أيضاً. ميزة الجسد أنه خاص، ولكن في حالة المرأة المجتمع يجعله عاماً ومباحاً للاحتمالات كافة. أما ميزة القفص، فهي أنه قفص، حتى وإن زيّنه المجتمع لتسويغه، وأضاف إليه صفة الذهب. لقد حسمت أبيض هذا الصراع، وقررت الذهاب إلى المعركة. إنها الذكورية التي لا تحتاج إلى تقديم نفسها كنظرية، بل تعمل كأنها ما بعد النظرية، مستقوية إلى حدٍ كبير بأسطورة الخلق العبرانية، التي في أساسها تقوم على استلاب الجسد، وتستمد صلابتها تحت ذريعة الخطيئة الأولى. هل هناك أي داعٍ لمسايرة الأسطورة؟ إطلاقاً.
بعد مشاهدة البروفات، يتضح أننا أمام عاملين أساسيين، يتوقع أن يظهرا بشكلٍ أكثر نضوجاً خلال العرض. وهما عاملان متناقضان: الهدم والبناء. البناء قضية مفهومة، ولينا أبيض كما تقول، ماضية في هذا الاتجاه الرافض للنظام البطريركي منذ باكورة أعمالها (إلكترا /1997). أما الهدم، بين النظام والمسرح، فقد يتطلب الكثير من الدفع لتحريك المياه الراكدة في بئر المجتمع. من الناحية الفنية، نتوقع هدماً يتجاوز السرد اللغوي ويتفوق في الأداء الجسدي، ذلك أنّ اللغة لا تكفي وحدها على المسرح، إن سلّمنا بأنها كافية في النص الأصلي. نتوقع بطلات حقيقيات وإشكاليات، يرفضن سيطرة العرض الذي يقدمنه عليهن، بحيث لن يكون كافياً أن يحسمن هويتهن. يجب أن يرمي العرض حجراً في بئر العالم البطريركي.