إن البيئة المنزلية التي تسودها المحبة ويظللها التفاهم تخصب أرضها صفاء وحباً وحناناً، وتسبغ على أطفالها الدفء والراحة والسعادة، لأن ما يحيط بجنبات الأُسرة من آداب وسلوك، وما يلمسه الطفل ممن حوله من عطف وحنان ورعاية، يكوِّن الكثير من اتجاهاته في المستقبل، فالبيت الذي ترفرف عليه ظلال السعادة، وتورق أرضه بالمحبة، يخرج منه أفراد أسوياء، في حين أن البيت الذي تقطعت فيه أواصر الرحمة وخيمت عليه سحب الشقاء، يلفظ دائماً الشواذ والمرضى الذين يكونون عالة على المجتمع ومن فيه..
ولما كان الأطفال بدافع التقليد يميلون إلى التشبه بآبائهم في كل ما يقومون به من أعمال وأفعال، فكل ما يسبب انفعالاً لوالديهم يكون له نفس الوقع في نفوسهم، ولما كانوا يكتسبون من آبائهم طريقة التعبير والاستجابة الانفعالية، كان على الآباء أن يتقيدوا بالاعتدال حتى لايكونوا سبباً في الإضرار بأولادهم، وأن يراعوا جانب الحكمة في التعبير بالاعتدال حتى كي يكونوا خير قدوة، فليس أضرُّ على الطفل من بيت هائج مائج، يفور من فيه لأوهى الأسباب وأتفه الدوافع…
ويجب على الأم أن تزود طفلها بالمعلومات الصحيحة، حتى لا يقع فريسة الأوهام والخوف أو التعصب من غير سبب ظاهر، وعليها دائماً أن تراقب انفعالات طفلها وتوجهها نحو الأهداف النافعة، والتي تساعد على تكوين العواطف الحسنة، التي تكسب سلوكه في المستقبل الثبات والاستقرار.
الأم وعلاقتها بأبنائها:
إن الأم بما تقدمه من خدمات جليلة، ومن رعاية مخلصة فائقة لأبنائها، تصبح المثل الأعلى للعطف والحنان والحب والإيثار والتضحية، فهم ينظرون إليها نظرة إكبار، ويتطلعون لها بإجلال واحترام، ويعتبرونها القلب الكبير الذي يستوعبهم ويمدهم بنبضاته الدافئة. فيلتفون حولها ويستمعون إلى نصحها وإرشادها، فهي المصدر الذي يرفدهم بالحياة والسعادة، ومتى شب الطفل وتجاوز حدود أسرته إلى المجتمع الكبير، واتصل بأطفالٍ آخرين، زادت مسؤولية الأُم في الاعتناء به، وتوجيهه نحو الاندماج في الحياة، ومهما كبر الطفل واشتد عوده وأصبح شاباً يعتمد على نفسه، تبقى العلاقة الروحية التي تربط بينه وبين أُمه قوية وتزداد ارتباطاً وتأثيراً على مدى تقدم الأيام فهي رابطة مقدسة لا يفصمها إلا الموت.
وإذا كان الحب عواطف تتميز بالقوة والحساسية، وتندفع تجاه المحبين فتحيطه بالعناية، وترافقه ظلاً يرعى حياته بالخير، فإن هذه العلاقة العاطفية تتصف بالقوة بين الأم وأبنائها، وهي أقوى العلاقات الإنسانية قاطبة، فهي التي تجعل الأم تضحي من أجل أولادها بكل شيء، وتحدب عليهم، وتحس بآلامهم، وتغمرهم بدفء حنانها وغزارة عاطفتها، فهي علاقة مثالية فتية دائماً راسخة أبدية.
وإن الطفل يبدأ إحساسه بدفقات العاطفة وحرارة الحنان منذ ولادته. وقد أثبتت الدراسات والبحوث أن 85% من سلوك الطفل نابع من علاقته بأمه. وقد درجت العادة في دور التوليد على فصل الصغير عن الأم مباشرة بعد الولادة لأسباب العناية الصحية، إلا أن النتائج الحديثة للأبحاث تخلص إلى القول بوجوب وضع الوليد على تماس حسِّي مع الأم بعد الولادة مباشرة، وذلك لأهمية هذه اللحظات في العلاقات اللاحقة بين الطفل وأمه.
فالتماس الجسدي بين الاثنين يمكن أن يؤثر في الاتصال المتبادل بين الطفل والأم.
ولوحظ أن الطفل الذي يحرم من أمه بعد الولادة، ولا يحصل على احتضان وحب كافيين ينقص وزنه ويفقد حيويته، ولذا يرى الأطباء في بريطانيا ضرورة تواجد الأم التي يوضع طفلها في غرفة العناية الخاصة بقربه، وأن تمتد يدها لتلامسه برفق وحنان، وإن سمحت ظروفه الصحية أن تلصقه بصدرها لبضع دقائق.
فالدراسات والبحوث الطبية الحديثة تؤكد أن الأم حين تضم طفلها إلى صدرها، ويلتصق جسدها بجسده بشكل حسيٍّ ومباشر، فإن ساحة كهرطيسية تتولد بين جسديهما تؤدي إلى تهدئة حالة توتر الطفل وإشعاره بشيء من الأمان، كما يؤدي لقيام جهاز الهضم عند الطفل بوظيفته بشكل أفضل، حيث يتحقق وضع نفسي مريح للطفل يؤدي به إلى النوم نوماً مريحاً هادئاً وعميقاً.
وفي عام 1920م لاحظ المسؤولون وفاة ما يقارب 37% من أطفال الملاجئ في أمريكا دون أسباب مرضية ظاهرة، ظلت الحيرة مسيطرة، حتى لا حظوا أن أحد الملاجئ تنعدم فيه نسبة الوفيات بين أبنائه من يتامى ومجهولين، وبعد التحري تبين أن سيدة متقدمة في العمر تسكن بالقرب من الملجأ، تأتي كل يوم وتمر على سرير كل طفل، وتحضن الأطفال واحداً تلو الآخر، وتقربهم من قلبها وتربت عليهم بحنان ومداعبة، وتحرص على أن تلامس يدها جلدهم مباشرة، أو تضع أجسادهم الصغيرة على يديها وتضمهم إلى صدرها، ولما سئلت عن سر عملها، قالت: (إنها تجعل الأطفال أصحاء)، وحين قام العلماء بدراسة هذه الظاهرة، تبين أن الطفل تكون نبضات قلبه سريعة. وغير منتظمة أحياناً، ولكن ملامسة الطفل لأُمه تجعل قلبه ينتظم ونبضاته تصبح طبيعية.
وهناك من يرى أن الأربع والعشرين ساعة التي تلي الولادة، يمكن أن تعلب دوراً هاماً في تحديد سلوك الأُمومة، ويمكن اعتبارها مرحلة حساسة في نمو العلاقة بين الأم والطفل. وتتميز لحظة الميلاد بحدوث تغيرين أساسيين بالنسبة للطفل، فهو في هذه اللحظة معرض لحالات من عدم الاتزان أو الحرمان أو الانزعاج، والتي غالباً ما يتكيف معها على وجه السرعة، هذا من جهة، ومن جهة أُخرى فهو يواجه أيضاً مختلف الأحداث والتجارب التي تشكل إدراكاته وانفعالاته. وفي العادة يأتي شخص آخر ليرعى الطفل عندما يبكي أو يضرب بأطرافه، وبهذا التصرف يدخل نمو الطفل تحت تحكم البيئة الاجتماعية المحيطة به، فمن اللحظة التي يبدأ فيها شخص في خدمة الطفل، تتقوى بعض التصرفات الخاصة بينما تضعف أخرى، ويبدأ ارتباطه بإنسان معين ويدخل في النظام الذي ينظر فيه إلى الناس كأشياء أساسية يلجأ إليها الفرد للمساعدة ومنها يتعلم الطفل القيم والعادات… ويجب أن توجه الجهود إلى أهمية تغذية الوليد من ثدي أمه، خاصة خلال الشهور الثلاثة الأولى من عمره. ومسؤولية تغذية المولود من الثدي استمرار لمسؤوليتها في تغذيته عن طريق الحبل السري.
ولبن الأم أهم غذاء للوليد خلال عامه الأول، ويستمر ذا قيمة عالية خلال عامه الثاني، ومن الثابت أن لبن الأم غني جداً بالبروتينات، ويحمي جسم الطفل من الإصابة بالأمراض كالحصبة والسعال الديكي والإسهال. وفي فترة لبن المسمار «الصمغة» الذي يستمر من ثلاثة إلى ستة أيام ليس هناك حاجة لإعطاء الطفل أي أغذية أو سوائل أُخرى ويستمر ذلك خلال الأسابيع الأولى من عمر الطفل.
- لبن الأم عبارة عن خليط من الدهون والسكريات والبروتينات، لذا فهو يزود الجسم بالعناصر الغذائية اللازمة لنمو الرضيع، مع وجود عنصر الحديد الذي يكفي الرضيع لمدة ستة أشهر بعد الولادة. وبتتبع وزن الطفل مع الرضاعة نجد النمو واضح المعالم.
- لبن الأم يصل إلى فم الطفل في درجة حرارة مناسبة، ومعقماً.
- لبن الأم يقوي الروابط بين الأم ووليدها، إذ يشعر الوليد بدفء حضن أمه فيزيد إحساسه بالأمن والطمأنينة، والرضاعة الطبيعية تفيد الأم أيضاً إذ أنها:
تقلل من إصابتها بسرطان الثدي نظراً لقيام الثدي بوظيفته. فأقل نسبة للإصابة بسرطان الثدي توجد بين المرضعات، والرضاعة من الأم تكسب الطفل مناعة ضد العديد من الأمراض.
تساعد على انقباض الرحم إلى حجمه الطبيعي، كما تقلل احتمالات حدوث النزيف الذي يصاحب فترة النفاس وما بعدها، والتبويض يكون أقل مع الرضاعة الطبيعية من الثدي، باعتبارها وسيلة للمباعدة بين حمل وآخر.
وقد أفادت الأبحاث التي أجرتها هيئة الصحة العالمية على الألبان والأغذية الصناعية والتي نشر الكثير عنها بمناسبة العام الدولي للطفل عام 1979م أن الألبان الصناعية، والأطعمة المصطنعة او المحضرة كيماوياً لها تأثيرات مدمرة على صحة الطفل وعلى جهازه الهضمي. كما أن الرضاعة الصناعية تعرض الطفل للإصابة بالنزلات المعوية بسبب التلوث، وهذه النزلات تعتبر السبب الرئيسي في ارتفاع نسبة الوفيات بين الأطفال الرضع.
وتفيد التقارير الطبية مؤخراً أن الأطباء البريطانيين يلزمون الأُمهات بإرضاع أطفالهن فترة لا تقل عن ثلاثة أشهر.
وبودي أن أضيف أنّ البحوث الطبية الحديثة أوصت بوجوب امتناع المرأة الحامل عن التدخين. فجنين المرأة المدخنة قد يولد صغير الحجم، ويكون أكثر عرضة للتشوهات الجنينية والوليدية، ولديه استعداد للإصابة بفقر الدم والسرطانات، والمرأة المدخنة مهيأة للإصابة بالدوالي، وبجلطات الأطراف، وسرطانات الثدي والرحم، أكثر من غيرها وتزداد نسبة هذه الإصابة كلما كانت المرأة أكثر بدانةً.
ومما تقدم نرى أن ضم الأم طفلها إلى صدرها، وإرضاعها له، يترك آثاراً بالغة الأهمية في نفسه، وراحة وطمأنينة لخاطره وأعصابه، ويعمل على نموه نمواً سليماً، ويزيد من مقاومته للأمراض والحفاظ على صحته، ويساعد على تخلصه من الإحباط الذي يسببه الفقر العاطفي عادة.
لمسات الحنان:
لتتوخَ الأُم مسح رأس طفلها، قبل ذهابه إلى المدرسة، ولدى عودته منها، وأثناء نومه، وكلما قام بعمل حسن ومرضٍ، إن هذه المشاعر العاطفية قد تظهر بسيطة ولكنها حساسة تفعل فعل السحر في إرواء مشاعر الطفل وإرضاء أحاسيسه، وتسبغ عليه الشعور بالأمان والسعادة، وينعكس هذا بالتالي على صحته ونفسيته حيوية ونشاطاً، وعلى عقله تفتحاً وتألقاً وإبداعاً…
وهذا لا ينطبق على الأطفال فقط بل على الكبار أيضاً، فالكلمات الرقيقة العذبة واللمسات الناعمة، ترضي النفوس الغاضبة، وتهدئ الأعصاب المتوترة، وتسمح بتفاهم وإبداع عقلاني متألق، كم تشعرين بالسعادة يا سيدتي عندما يمنحك زوجك عطفه وحنانه، وكم يكون له وقع طيب وأثر عميق على حواسك وأعصابك وصحتك ونشاطك وعملك، فاحرصي دائماً أَن يكون عش زوجيتك من زوج وأولاد مغمورين بجداول تنساب رقيقة من ينبوع حنانك ورعايتك. لتروي دوحة حبك فتخضرّ بالسعادة وتزهر بالآمال.
ومن واجب الأم غرس الحب في قلوب أبنائها واقتلاع الكراهية من نفوسهم، فالطفل المتميز بتكامل شخصيته، هو الذي يحب أُسرته ومجتمعه، ويحنو على الفقراء والضعفاء ويتجنب الأذى، ويحرص على بناء علاقات إنسانية طيبة مع أصدقائه ورفاقه حتى يكسب وُدَّهم ويحظى بمحبتهم… إن الحب والحنان لا يتكونان بالمواعظ والإرشادات التي تسديها الأُم لطفلها، أو بالمعلومات التي تزوده بها، بل بغرس العواطف والأحاسيس السامية في نفسه منذ ولادته، وعندما تمارس معه هذا الحب والحنان بأسلوب عملي يتأثر به ويسير على نهجه. ولا يقتصر غرس الحب في الطفل على الأُسرة والمجتمع المحلي الذي يعايشه، بل يتسع ليشمل الوطن الذي يجعله أكثر استعداداً للتضحية من أجله.