الأيام وعاء الأحداث، ومستودع الجهود الإنسانية بخيرها وشرها، وحلوها ومرها، وإنما يكتسب الزمن قيمته من قيمة الحدث الذي تم فيه، وشهر المحرم من الأشهر الحرم، التي حرم فيها القتال "يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ" (البقرة: من الآية 217).
وهو الشهر الوحيد الذي ثبتت تسميته بشهر الله، كما جاء في الحديث عن أبي هريرة: "أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم" (رواه مسلم).
وفي شهر الله المحرم يوم عظيم هو يوم العاشر منه، وقد أطلق عليه "عاشوراء" للمبالغة والتعظيم؛ لأن فيه ذكريات غالية، ينبغي تذكرها، ولذا قال رب العزة لموسى عليه السلام: "وذكرهم بأيام الله"، أي بنعم الله عليهم من النجاة من فرعون، كما قال القرطبي في التفسير (9/341) فيكون عاشوراء بناء على هذا من أيام الله الخالدة في التاريخ، فلنقف معه قليلاً.
يوم الأمل
ظل الحلم الكبير يداعب بني إسرائيل حتى جاءهم موسى -عليه السلام- من مدين بغير الصفة التي خرج بها؛ إذ أصبح رسولاً كريماً مكلفاً بحمل الدعوة، وإنقاذ المستضعفين: "وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ" (القصص: 5 و6).
وذهب موسى وأخوه هارون إلى فرعون، ومعهما هداية السماء، ودار بينهما حوار وجدال، وتواعد في يوم حاشد، وظهر الحق الأبلج، ولكن هيهات للظالمين أن يقبلوه!
فلم يجد موسى -عليه السلام- بُداً من أن يدعو على فرعون، ويستعدي عليه الله سبحانه بما حكاه القرآن: "وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ" (يونس: 88).
وكانت استجابة الله السريعة، حين قال: "قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ" (يونس:89).
وأمر موسى ومن معه من بني إسرائيل أن يخرجوا ليتحقق لهم الأمل الذي كانوا يتطلعون إليه، وهو النجاة من فرعون والتمكين في الأرض: "وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ، فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ، إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ، وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ، وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ" (الشعراء: 52 - 56)، وسار موسى ومن معه ناحية الشرق، وسرعان ما اكتشف فرعون خروجهم، فحمله غيظه منهم على أن يتتبعهم بجنوده على وجه السرعة، حتى أدركهم على مقربة من شاطئ اليم: "فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ، قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ" (الشعراء 61 و62).
وكانت ثقة موسى -عليه السلام- بربه سبباً في تمام النعمة وكمال المنة: "وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ" (الأعراف: 137).
وها نحن أولاء -في ذكرى التمكين للمستضعفين- نترقب الخلاص لأمتنا من ذلك الليل الطويل: يا أمتي صبراً فليلك كاد يسفر عن صباح ** لا بد للكابوس أن ينزاح عنا أو يزاح
يوم العبرة بهلاك الظالمين
لم يتعظ فرعون -كشأن كل الطغاة والظالمين- حين رأى آيةً عظيمة من آيات الله أمام عينيه، فها هو البحر ينشق لموسى عليه السلام، وها هو طريق ممهد يظهر فجأة فوق الماء، فتغافل فرعون عن ذلك كله وسار باطمئنان الجاهل، واستخفاف الغافل يريد اللحاق بهؤلاء الفارين، ولكنه وجد نفسه فجأة في وسط الماء، وأدرك مصيره الأسود المحتوم فحاول أن يصنع شيئاً، ولكن الله بعدله العظيم لم يمكنه من النطق بكلمة التوحيد إلا في الوقت الضائع؛ حيث لا ينفع أحداً إيمانه، فكان سوء الخاتمة جزاء وفاقاً لما ارتكبه من جرائم وحشية في حق الشعب، ومن تطاول على رب العزة حين ادعى وهو الحقير الذليل أنه الإله المعبود.
وهكذا تعلمنا تلك النهاية أن جرائم الطغاة لا تذهب سدى في لحظة عابرة، وقد قال ابن عباس إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن جبريل عليه السلام جعل يدس في فم فرعون الطين خشية أن يقول لا إله إلا الله، فيرحمه الله"، أخرجه ابن حبان والترمذي وصححه الألباني والأرناؤوط.
وما أجمل ما حكاه القرآن العظيم عن غرق فرعون حين قال: "وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِين، فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ" (يونس: 90 و92).
إن الله عز وجل لم يكتفِ بعقوبة الآخرة -ويا لها من عقوبة!- ولكن سبحانه عاقبه في الدنيا أيضاً بالغرق، وجعله عبرةً فلم يسمح لجثته بالاندثار، بل جعل بدنه يطفو على سطح الماء ويستقر على نجوة من الأرض -كما قال المفسرون- فأخذه المصريون واحتفظوا بجسده، كعادتهم بما مكنهم الله من أسرار التحنيط وسلطان العلم، فصار لمن خلفه آية، ليس لجيل أو جيلين، بل لعشرات الأجيال ومئات السنين، فسبحان الذي يمهل ولا يهمل!
يوم الصوم مع الذكرى والبشرى
أراد الله سبحانه ليوم عاشوراء أن يظل بارزاً حياً، وما ذاك -في نظرنا- إلا لإحياء الذكرى بهلاك الظالمين، والبشرى بحسن العاقبة للصابرين، ولذا ظل هذا اليوم معظماً عبر القرون عند اليهود، وانتقل تعظيمه إلى النصارى وإلى قريش في الجاهلية، إلى حد أنهم كانوا يصومونه، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصومه في الجاهلية أيضاً، فقد جاء الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان يوم عاشوراء تصومه قريش وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصومه في الجاهلية، فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان ترك عاشوراء، فمن شاء صامه، ومن شاء تركه" (متفق عليه).
والمراد بقول عائشة: "فلما فرض رمضان ترك عاشوراء"، أي ترك وجوبه، أما استحبابه فظل باقياً، بل إن النبي -صلى الله عليه وسلم- رغب بعد ذلك في فضل صومه بفعله وقوله، فعن ابن عباس رضي الله عنه، قال: "ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى صيام يوم فضله على الأيام إلا هذا اليوم يوم عاشوراء" (متفق عليه).
وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- فضل صيام هذا اليوم بقوله: "وصيام يوم عاشوراء إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله" رواه مسلم.
إن السبب في تعظيم ذلك اليوم والأمر بصيامه، وتكفير السيئات به، يعود إلى ما له من تأثير على حياة البشر، حينما تظل ذاكرة الأمة المسلمة يقظة ومتوقدة للمواقف الفاصلة بين الحق والباطل، ويدل على ذلك ما نلمسه من إدراك النبي صلى الله عليه وسلم لأهمية استشعار البعد التاريخي في الأحداث المعاصرة، والشعور بوحدة المعركة، فهلاك فرعون موسى بشرى بهلاك فرعون كل مرحلة من مراحل الصراع، ولذلك جاء فى الحديث الذي رواه مسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سأل اليهود: ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ فقالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، وغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكراً، فنحن نصومه، فقال: فنحن أحق وأولى بموسى منكم"، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.