(1)
أحفاد النجاشي
لعبت الصُدفة دورها لأصير في قلب أديس ابابا (16-22 أكتوبر 2016) ، فسؤال : من يعرف أعلامي أو أعلامية من ليبيا ؟ كانت اجابته أسمي وأيميلي على صفحة الفيس بوك في حوار بين زميلتين عربيتين في مهنة الصحافة والاعلأم ، و جعلت من مكتب المرأة للسلام والأمن بمفوضية الاتحاد الافريقي (بالتعاون مع مكتب الاتصال والمرأة بالامم المتحدة ) يتواصل معي بإرسال الدعوة و طلب السيرة الذاتية ، وخلال ثلاثة أسابيع كُنت في بلد أحفاد النجاشي ، ملك الحبشة - أثيوبيا اليوم – حامل لواء التعايش والتسامح حين قصده من آمنوا بالأسلام دينا ، و قد ضامهم أبناء عمومتهم وأهلهم سوء العذاب فوجدوه ملكا لا يُظلم عندهُ أحد ،كان المظلة الحاضنة الآمنة للجوءهم واغترابهم ، و في ذاكرتي ونقلا عن والدي حكاية جدي "رجل البوسطه" في واحته الجنوبية اذ يستلمُ كيسا مليئا برسائل المُجندين الليبين غصبا والذين نقلوا للقتال في الحبشه ، في تلك الرسائل حمّل المجندون أهلهم سلامهم وشوقهم ، بعضهم عاد وأكثرهم قضوا نحبهم ، والواقع الاستعماري حينها جعل من الأثيوبيين أيضا مُجندين ضمن العسكرة الايطالية التي غزت ليبيا ، حيث جرى الدفع بهم في أتون حرب نيابة عن الفاشيين الطليان ، وكان أجدادنا يُطلقون على أولئك المُجندين مُسمى " المصوع " حيث أنهم جُندوا من أثيوبيا وأرتيريا ، وجغرافياً الاسم هو العاصمة القديمة لأرتيريا .
(2)
أعلامُ السلام
كان محور اللقاء الافريقي لمكتب المرأة والامن والسلام في مفوضية الاتحاد الافريقي بأديس أبابا " الجندر والاعلام" في أوضاع النزاع وما بعده ، بمشاركة ما يقارب الخمسة وعشرين صحفيا ومدونا كان من صميم عملهم المُراسلة الحية و الكتابة المُهتمة و المختصة ، و إيلاء حيز مهم من عملهم الصحفي الاخباري في بلدانهم الافريقية التي تشهد خللا في أوضاع النساء مثلوا ست عشر دولة ، ومنها : أوغندا ، اثيوبيا ، كينيا ، الكونغو الديمقراطية ،السنغال ، جنوب السودان ، الصومال، مالي ، تونس، مصر، ليبيا ، ، فأغلب من حضروا وجمعتنا مناقشات في القاعة أو على الهامش جل اهتماماتهم وانشغالاتهم يتم فيها الاضطلاع بمهمة تقديم قصص النساء نزوحا وتهجيرا واغتصابا ، وأي نوع من أنواع المساس العنفي المعنوي والمادي ، وكان منها – تلك القصص – واقع ما يجري تجاههن أثناء الانتخابات وخاصة في المدن الأطراف حيث لا يتوفر عنصرا الامن والسلامة ، كما وكيفية مواجهة التصعيد السياسي الاعلامي الذي ينتهجه بعض من صناع القرار باختيار تغيبها عن الممارسة الديمقراطية بحجة عدم توافر شرطي الامن والسلامة أثناء تقديمها لصوتها أو عند ترشحها ، و تضمنت ورشة العمل التي قادتها المحاضرة كولن مورنا (Colleen morna )من زامبيا ، وهي صاحبة تاريخ عمل في مجال الجندر والاعلام ، ومؤلفة كتب مشتركة في ذات الموضوع ، عرض وتحليل نماذج من الصحف الافريقية ومدى اضطلاعها بالمسألة المطروحة، وكنت قدمت ملحق جريدتي "ميادين المرأة" التي ترأستُ تحريرها وتم التواصل عبرها مع ناشطات في أكثر من مدينة ليبية ، وحوت صفحاتها أكثر من موضوع حول أوضاع المرأة الليبية بين ما تناضل من أجله وبين ما تواجهه من صعوبات وعوائق في أوضاعنا الانتقالية ، وعددا أخر يخص الانتخابات وفيه لقاءات موسعة للمترشحات الليبيات وتمثيلهن الانتخابي ، بدت ليبيا غائبة عن الحضور الصحفي والاعلامي الافريقي ربما كان عائق اللغة سببا لذلك ، لكني حين طلبت مني الاستاذة المحاضرة أن أقف ضمن ما جعلتهُ مربعات تُحدد الاوضاع الانتقالية للبلدان الافريقية ، فصنفتْ ليبيا مع الصومال ونيجيريا ، أستأذنتُها لطرح المفارقة الانتخابية الليبية - قياسا بجارتينا مصر وتونس - التي انحازت للتيار المدني والدولة الديمقراطية ، ردت بأننا جئنا هنا للبحث في الأزمات واقتراح حلها لا عرض المُكتسبات فذلك سيطول !.
في صباح اليوم الختامي ألقى مُمثلنا من نيجيريا البيان المُقرر لأعمالنا في الجلسة المشتركة بين مجلس المرأة للامن والسلام مع ممثلي دول الاتحاد الافريقي وأعضاء من مجلس الامن بالامم المتحدة ( منهم النرويج ، السويد ، بريطانيا ، امريكا ) وممثلي اليونسكو والاتحاد الاروبي للأطلاع و المُصادقة على بياننا ، ومن ثم الاعلان عن أطلاق نواة شبكة مراسلي وأصوات التغيير بأفريقيا ، حيث توالت الكلمات الداعمة من تلك الاطراف التي حضرنا اجتماعها ، وإن ألقت بظلالها على الاوضاع في جنوب السودان مما أثار حفيظة ممثلها الرسمي بالاتحاد ، متسائلا عن حيثيات زميلتنا الصحفية المُشاركة في اللقاء ! ،والتي طرحت أسئلتها حول تبادل الاتهامات بشأن حالات الاغتصاب بين المعارضة و الحكومة ، السيدة Mme Bineta Diop الممثلة الرئيس لمكتب المراة للأمن والسلام حسمت الامر بأنها ستكون ضمن وفد أعلامي ومدني في نهاية هذه السنة للأطلاع على الاوضاع وعن كثب بجنوب السودان .
(3)
بين بولي وشوميدرا !
أتيح لنا كقروب أعلامي أفريقي أن نتجول في شوارع عاصمة أثيوبيا وأحيائها ، ونقارب صباحاتها وليلها ، ركبنا مواصلاتها المختلفة ، وقد لمسنا عند أهلها رحابة صدر وابتسامة ثغر دافئة حتى ونحن نُجادلهم في أسعارهم ، وصادف حظنا أن فندق الاقامة الذي انطلقنا منه الى مقر الاتحاد الافريقي للبث في نشاطنا المُشترك يرتكز في حي من الاحياء الرئيسة بالعاصمة أديس أبابا ( حي بولي ) وعلى مقربة منه أسواقهم الشعبية ( شارع اسمه مكتب البريد القديم )التي تحتفي بالمُنتج المحلي وبصناعة أغلبها يدوية يخيطها رجال ونساء قابلناهم رأي العين ، مجتمعون في ركن من السوق منشغلون بالتطريز والتعشيق لعقيق وخرز لأزيائهم اليومية والمناسبتية ، وجذبتنا اكسسوراتهم النسائية ذات الالوان الزاهية ، والمصنوعات المنزلية جلدية وخشبية ومن سعف النخيل أطباق للأستعمال اليومي و تحف للزينة ، لفت انتباهنا طقوس جلسات أعداد القهوة التي شغلت أكثر من ركن وحيز في جوانب مطاعمهم وأسواقهم و أزقتهم أيضا ، إذ أعدت لنا شابة قهوة أثيوبية سكبتها في فناجين مُزينة جميلة ، كما و شجعتنا على شرائها وأخذها معنا عند أوبتنا بلداننا ، والقهوة تُقدم رفقة صحن من الذرة المُحمسه ( الفوشار ) ، الشابة العشرينية حكت لنا عن تجربة عملها المنزلي بدبي وبيروت ما جعلها تتحدث العربية بطلاقة ، وكان مُلفتا أثناء مغادرتي لمطارهم مشاهدتي لزرافات من فتياتهم صغيرات السن يتجهن صوب رحلة بيروت طلباً للعمل !.
سنتذكر وجبتنا الجماعية لطبق ( إن جراي ) الشعبي بتوابله الحاره ، رفقة رقائق رطبة ملفوفة من الخبز المحلي المُسمى " التف" الذي تتميز به أثيوبيا ، شاهدنا أيضا أطفال الشوارع وأمهاتهن تشكين أوضاعهن الفقيرة ، وأنتبهوا لنا ونحن نتجول في أسواقهم آملين مُساعدتهم ، وبدا ذلك أكثر وضوحا في حي شوميدرا الشعبي الذي يبعد مسافة نصف ساعة عن العاصمة ، وبه الجامعة تقابلها مساحات لبيع الكتب المستعملة والتي تلقى رواجا لدى طلابها لأسعارها المخفضة ،وزرنا مركز البحوث والدراسات الاثيوبية الذي مدخلهُ منحوتتان ذهبيتان لرجل وامرأة ، ويعمر بالصور والوثائق التي تحكي تاريخ أثيوبيا وعلاقاتها بالاخر.
تأسرك أديس أبابا بدفء حضورها وما تُمارسه من جاذبية بساطةً وعفوية ، منذ أن تُسلمك التأشيرة الفورية ، وبفاتورة زهيدة عبر شبابيك مدخل مطارها تشجيعا للقادمين إليها سياحة أو عملا ،ولعل مرد ذلك للأوضاع الاقتصادية المتذبذبة التي شهدتها أثيوبيا مؤخرا ، أديس ابابا رحبت بنا أيضا عبر سهرة فرقتها الشعبية وراقصيها المبدعين التي تُقارب بعض نغماتها وأيقاع طبولها الفلكلور الشعبي الليبي، و من ذلك قاسم أفريقيا المُشترك تاريخا و ثقافة و فنا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) عنوان المقال هنا أستعيرهُ من عنوان رحلة دونتها صحفيا الرائدة الليبية خديجة عبد القادر ( ليبية في بلاد الانجليز) وكنتُ وثقت سلسلتها تلك في كتابي عنها : خديجة عبد القادر ليبية في بلاد الانجليز- صدر 2010) .