هو طفلٌ أصغر بسنتين أو أكثر من سن المدرسة، كان مفروضا أن تكون هذه السن هي أحلى سنوات العمر، لأنها لم تُلوَّث بعد بممارسات الكبار الذين يستعجلون الطفولة،
كان الطفلُ البريءُ يقف ملاصقا لسور حديقة صغيرة، نجحتْ البلديةُ في إنشائها وإحاطتها بسور من السلك القوي.
كان البريءُ يتأمل الزهور، وكنتُ أُراقبُه عن بعد، ابتسمتُ لاستمتاعه بالمنظر، ولم أكن قد خمَّنتُ نواياه، إلا عندما استلَّ سلكا كان يجرّه خلفه، وشرعَ يحاول إدخاله في فتحة السور السلكي الضيقة، كان السلك مجهزا ملويّ الطرف!
كنتُ حتى اللحظة أتابعه من سور الحديقة الآخر، فاعتقدتُ للوهلة الأولى بأنه أضاع شيئا داخل الحديقة، ربما تكون كرةً أو قطعة حلوى، غير أن انحناءة نبتةِ الورد، وتمزق أوراقها، أيقظني فقد كان السلك مجهزا لشنق أكبر شجيرة وردة في الحديقة !
صراخي واحتجاجي، لم يُنقذ الوردة من مشنقة السلك في يد الطفل البريء! فقد تمكن الطفل من تنفيذ حكم الإعدام شنقا، في الوردة الحمراء الجميلة في الحديقة!!
وفي صورة أخرى للبراءة، براءة الطفولة رأيت منذ أيام كومةً من الأطفال، تتكون من خمسة، تتراوحُ أعمارهم، بين السابعة، والثامنة، كانوا يصطفون، وهم ينظرون إلى الأعلى، وكانت أياديهم مغلقةً على شيْ، لم أتبينه، كنتُ غير بعيد أتابعهم، وبعد لحظات تقدَّم أحدُهم إلى الأمام وألقى بالحجر بعيدا، فتابعت مسارَ الحجر، وإذا هم قد اعتمدوا هدفا ثابتا، وهو مصباح الإضاءة في الشارع العام !
وفي صورة أخرى ثالثة، كان بطلها طفلا، لم يبلغ الخامسة يتعرضُ لصفعٍ على الوجه من والده، وهو يأمره ألا يعود للبيت باكيا شاكيا، وعليه أن يأخذ حقه بيده، وإن لم يستطع فبعصا وإن لم يجد العصا فبالسكين .
الصور السابقة للأطفال، أعادت إلىّ صورةً أخرى قديمة عن براءة الطفولة!
لا يمكن أن تزول من مخيلتي ،ففي أحد الأعياد، زرت بيت أحد الأقارب، فهجم عليّ أحدُ أطفاله الذي لم يبلغ الثالثة من عمره، وألقى بنفسه عليّ ، فاحتضنتُهُ بحنان، وكنت أحمل في يدي كوب شاي ، نجحت في إبعاد الكوب، قبل أن يُهرق فوق ملابسي وابتسمتُ، وأحببتُ أن ألاطفه فكوّرت شفتي، وقرّبتهما من جبهته، وأنا أدغدغه ليبتسم وحاولت أن أقبله مكافأة له على حبه لي، ولكنه عاجلني وأفرغ ما في فمه من ( لعاب بريء) ونثره على وجهي.
ابتسمت أمه التي كانت تراقبُه من بعيد وهي تبتسم وتقول:
عيب.
فمنذ مدة، وهذا (البريء)! يفرغ لعابه في وجوهنا، ووجوه ضيوفِنا!!
وواصلتْ ابتسامتها العريضة وهي تقول صار يبصق ويعض!
فهو عند أُمِّهِ إذن، بطلٌ، تدَّخره ليوم معركةٍ، سيكبر، عنيدا، قويٌا، صُلبا، كما الصخرةِ، تخمش من يلامسها، وهو قادرُ على أن يبادل البسمةَ بلطمةٍ، واللطمةَ بلكمة، ولا يعود إلى البيت إلا وفي فمه قطعةٌ من لحم من يخاصمه!!
إن أبشعَ ممارساتِ كثيرٍ من الآباء، هو إلحاحهم على أطفالهم أن يتجاوزوا طفولتَهم، ويتحولوا من اليوم الأول إلى رجالٍ كبار أشداء أقوياء، فيعلمونهم أحاديثَ الكبار، وطرائقَ الكبار غصبا، ويشيدون بهم، إذا قلّدوا الكبار......... دعوا الطفولة تنضج في الأطفال !