لا يكاد يأتي الحديث عن النسوية إلا مصحوبًا بالحديث عن الجنس، الذي يعد أحد أكثر المفردات والمصطلحات اللصيقة بهذه الحركة منذ نشأتها وحتى الآن، مرورًا بأطوراها ومراحلها المختلفة.
فالحديث عن الجنس يشتعل تحت ظلال هذه الحركة أحيانًا كثيرة، حتى يكاد يصل إلى تخوم الثورة الجنسية والإباحية المطلقة, ويخفت الحديث عنها أحيانًا أخرى، حتى يكاد يتوارى عن الأنظار, فلا تسمع إلا همسًا.
ويحتاج الحديث عن تلك الحروب الجنسية التي نشبت أظفارها في جسد هذه الحركة النسوية، وما تبعها أو صاحبها من ثورة جنسية إلى تتبع لمسار الحركة التاريخي, وهو على سبيل الإجمال ثلاث مراحل رئيسة:
المرحلة الأولى كانت في القرن التاسع عشر، والنصف الأول من القرن العشرين, حيث ارتكزت أهداف الحركة النسوية على المطالبة بالمساوة بين الجنسين في الحقوق الاقتصادية والسياسية والقانونية وغيرها.
ثم كانت المرحلة الثانية، والتي امتدت من العقد السادس إلى العقد الثامن من القرن العشرين, وتركزت أهدافها وغاياتها على تذويب ومحو الفوارق بين الجنسين، ومحاولة وئد العادات والتقاليد المتضمنة والمرسخة لهذه الفوارق.
أما المرحلة الثالثة: والتي تعد أخطر مراحل الحركة النسوية, فقد امتدت من العقد الأخير من القرن الماضي، وتستمر إلى الوقت الحاضر، وهي أكثر مراحل الحركة تناولًا لقضايا الجنس، واستخدامه كوسيلة لما يسمى بتمكين المرأة.
فلم تتوحد آراء رائدات الحركة النسوية العالمية حول العديد من القضايا التي تخص الجنس في هذه المرحلة على وجه التحديد، وبلغ النقاش بينهن ذروته في سبعينات وثمينات القرن الماضي، ليصبح هناك فريقان يتصارعان على اختطاف الحركة النسوية وتوجيهها.
ففي هذه المرحلة ظهر على سطح الأحداث مصطلح "حروب الجنس النسوية", "Feminist Sex Wars" تعبيرًا عن الصراع العنيف بين التيارين المتعارضين تمامًا داخل الحركة النسوية, على خلفية الممارسة الجنسية للمرأة وحدودها, حتى تكاد الحركة أن تنقسم إلى شطرين كبيرين، كنتيجة لهذا الصراع المشتعل حتى الآن.
الفريق الأول: المؤيدون للإباحية الجنسية وحرية المرأة في التصرف في جسدها "Sex-Positive Feminism", وترتكز دعوتهم على أن للمرأة الحرية الكاملة للتصرف في جسدها, ومن ثم فإن الحرية الجنسية تعد جوهر حرية المرأة.
وعبرت رائدات هذا التوجه الإباحي عن تأيدهن المطلق للميول والأهواء الجنسية بكافة أشكالها وأنواعها, وأطلقن ما يعرف بـ"الثورة الجنسية" The sexual revolution, وانتشر حينها شعار ملكية المرأة لجسدها "Your body is your own", والدعوة الى الإباحية الجنسية Sexual permissiveness.
وتلك الدعوات كلها ترفض بصورة قاطعة أي رقابة على العلاقات الجنسية بين الذكر والأنثى, حتى ولو كانت في صورة قوانين وتشريعات، فرضتها الدول لتنظيم تلك العلاقة الجنسية, بدعوى أن ذلك يتعارض مع حرية المرأة في التصرف في جسدها!
وهؤلاء راحوا يلتمسون في حالة ما قبل التاريخ ما يؤيد توجههم الجنسي الإباحي، فقالوا: إن المرأة في تلك الأوقات كانت تملك حرية الاختيار في المعاشرة الجنسية, وأن دعوتهن ليست إلا محاولة للعودة إلى الحالة الأولى, حيث المرأة تملك جسدها، وهي حرة في إباحة استعمال ذلك الجسد على الوجه الذي يمتعها وترغب فيه أو حتى منع استعماله مطلقًا.
وكان من نتائج تلك الثورة الجنسية ومن ثنايا الانفلات الجنسي المطلق الذي دشنته، أن ظهرت الدعوة إلى علاقات تسبح ضد كل المسلمات التي عرفتها البشرية في علاقة الذكر والأنثى وطبيعة المرأة على مر التاريخ.
فقد انتشر الجنس مع المثل (المثلية), Homosexuality، وتعدد الاختيارات مع الشريك الواحد أو الشركاء في العملية الجنسية، وهو ما زاد حقيقة من تحقير المرأة وإهانتها ليس تكريمها واعطاءها حقوقها وحريتها في تملك جسدها.
الفريق الثاني: استتبع ظهور التيار المؤيد لـ "الثورة الجنسية"، حركة معارضة لها من داخل التيار النسوي ذاته ، معبرة عن مخاوها من الممارسات الجنسية المنفلتة, وهم المعارضون للإباحية الجنسية "Anti-pornography Feminism".
ورائدات هذا التوجه رفضن بصورة تامة الإباحية بكافة أشكالها؛ لاعتبارات ذات صلة بمفاهيم وأدبيات الحركة النسوية ذاتها, مرددين القول بأن تلك الإباحية وهذه الثورة الجنسية, ما هي إلا صناعة تستغل المرأة, وهي أحد أشكال العنف ضدها، وأكثر الطرق إساءة لقيمتها، إضافة إلى كونها أحد أبرز أسباب الجرائم التي ترتكب ضد المرأة كالاغتصاب والتحرش.
كما دعمن توجههن هذا بأن الثورة الجنسية وما يصاحبها من ممارسات جنسية خاطئة، هي أحد أبرز الأسباب الداعية لانتشار الأمراض الجنسية الفتاكة وفي مقدمتها مرض نقص المناعة الطبيعية المعروف بالايدز.
وهكذا بدلًا من أن ندعم حرية المرأة وحفاظها على جسدها, فإن الثورة الجنسية والدعوات الأباحية جعلت جسد المرأة فريسة للأمراض الجنسية الفتاكة, أو عرضة للاغتصاب والتحرش في سوق التجارة الجنسية التي لاقت قبولًا ورواجًا بعد الثورة الجنسية, كما تقول رائدات هذا الفريق.
وفي مجال نقدهن لهذه الثورة الجنسية، اتهمن كذلك الإباحية الجنسية بأنها جعلت المرأة فريسة للتشيئ "Objectification", وجعلتهن مركز اهتمام الذكور في المجتمع، وبالتالي وجود العنصرية الجنسية, وهي الظاهرة التي طالما حاربتها الحركة النسوية منذ نشأتها وفي كافة مراحلها.
إضافة إلى ذلك فإنهن يرون أن الإباحية الجنسية على النحو الذي تطالب به رائدات "Sex-Positive Feminism" تقوم بتعزيز المواقف الجنسية والثقافية للذين يقومون بالاغتصاب والمضايقات الجنسية المتنوعة ضد المرأة.
ومن الواضح بعد هذا الاستعراض لحرب الجنس النسوية، أن تلك الحركة بفريقيها ما زال الجنس هو المسيطر على رؤيتهن للمرأة, وإنهن ـ عن جهل أو عمد ـ يرين بوضوح إشكالية المرأة في جنسها وليس عقلها, وإلا فإن القضايا المحورية للمرأة تتعدى كثيرًا حدود علاقتها الجنسية بالرجل.
وطالما سيطر حديث الجنس عند كل ذكر أو مقال عن المرأة وحقوقها وقضايها, كلما رسخ في الضمير العام والعقل الجمعي الترادف المسيئ بين المرأة والجنس, وهو ما تحاول الحركة ـ كما تزعم في أدبياتها ـ الفرار منه, لكنها وقعت فيه من حيث تدري أولا تدري.
وستستمر حروب الجنس حينئذ إلى أن تجد المرأة بوقًا اعلاميًا مستنيرًا يخرج من مشكأة النبوة, يتحدث عنها بحديث الوحي لا الوحل, بحديث الهدي النبوي, لا بتراهات وهلاوس الهوس الجنسي.