لم يخلُ الأمر قبل الحرب من امرأة مُحَجَّبة تنتمي إلى بيئة محافظة وتعمل سائقة سرفيس، ومن مهندسة رقيقة فتحت ورشة لإصلاح السيارات، ومن نساء دخلن سلك الشرطة والجيش، وفتيات تعملن نادلات في المطاعم والمقاهي والبارات...الخ
الآن وفي ظروف الحرب والتهجير وغياب الرجل لأسباب شتى(قتل، اعتقال، هجرة....) أصبح على المرأة السورية أن تقوم بكل الأعمال التي تعوّدت على أنها حِكْرٌ عليه، من إحضار كل حاجات الأسرة من الخضار والفواكه أو ما تيسر منها إلى (قنينة) الغاز والخبز، إلى إصلاح ما يتعطّل فيه من تمديدات صحية وكهربائية، حسب ما تسمح به إمكاناتها وخبرتها.
وامتد (التعدي على الكار) بالنسبة للمرأة إلى خارج المنزل، فصرنا نرى حالات كثيرة لنساء يُمارسن مهناً تكاد تنحصر بالرجال، ولم تعد المسألة استثناءات تؤكّد القاعدة التي تحدد ما للمرأة وما للرجل من اختصاصات.
فاطمة، امرأة ثلاثينية مُحَجَّبة تلبس المموّه وتحمل بندقية، وهي تنتظر وسيلة نقل تُقلّها إلى منزلها في أطراف دمشق، المشهد غير مألوف، أن تنخرط امرأة محجبة في سلك عسكري، مع وجود استثناءات طبعاً. فاطمة نزحت من إحدى قرى ريف حلب التي احتلتها داعش، وجاءت إلى دمشق ومعها أطفالها الثلاثة، وأب وأم عجوزان، فيما الزوج مختفٍ لا تعلم عنه شيئاً، استأجرت منزلاً في إحدى الضواحي ولم تترك بابا للعمل إلاّ وطرقته، حتى اهتدت إلى التطوّع كوسيلة تساعدها على العيش.
تقول إنها لم تكن تُفكّر يوماً بأن تحمل السلاح، لكن جاءتها هذه الفرصة وهي وعائلتها على حافّة الجوع، فسارعت إلى التطوّع رغم أن الراتب يكاد لا يغطي إيجار المنزل وبعض المصاريف البسيطة.
في ورشة لتصنيع المفروشات تعمل أم فادي التي نزحت هي أيضاً من بلدة عربين في الغوطة الشرقية ومعها طفلان، واستأجرت غرفة في حي من العشوائيات التي تحيط بدمشق. كانت العائلة تملك متجراً للمفروشات في عربين قبل الحرب، ثم قُتل الأب، وراح المتجر نهباً ثمَّ حرقاً، وحين بدأت بحثها عن عمل اهتدت إلى هذا المكان الذي أمّن لها دخلاً يقيها ذلَّ الحاجة. هي الآن تُتقن بعض مراحل العمل وتحاول أن تُتقن بقية الأعمال.
تقول أم فادي: العمل مجهد بالنسبة لامرأة، لكنني أعتاد شيئاً فشيئاً على التعب، تفتح كفّيها لتُرينا آثار العمل في الخشب والمواد اللاصقة، تبدوان كفّي رجل ينحت في الصخر.
سحر، طالبة جامعية تعمل نادلة في مقهى شعبي تقول: أن تعمل فتاة نادلة مطعم في باب توما أو أبو رمانة كان طبيعياً جداً، أمّا أن تعمل نادلة في مقهى شعبي فهي جديدة على مجتمعنا بسبب ظروف الناس نتيجة الحرب والغلاء الفاحش، وبسبب طبيعة روّاد هذه المقاهي ونظرتهم إلى الفتاة التي تعمل في المقهى بأنها سهلة المنال، ولهذا أتعرّضُ يومياً إلى مئات حالات التحرّش متفاوتة الوقاحة، فمنهم من يُلمّح وحين لا يجدُ استجابةً يصمت، ومنهم من تصل به الوقاحة إلى حد اضطراري إلى استدعاء صاحب المقهى ليوقفه عند حدّه، وغالباً ما يكون موقف صاحب المقهى إلى جانبه لأن كسب زبون عنده أهمُّ من نادلة يمكن أن يؤمّن غيرها بسهولة إن تركت العمل...
إذاً... هناك مِهَنٌ جديدة (تغزوها) المرأة السورية حيث لا مصدر للرزق سواها، أفران الصفيحة والمعجنات، العمل في ورشات النجارة والمجوهرات، وحتى ورشات البناء أحياناً إن اضطرت إلى العمل، ومكابس البلوك ومحلات توزيع الغاز المنزلي وورشات إصلاح الطرقات....الخ.
أما المرأة الريفية فهي ليست أحسنُ حالاً، خصوصاً أن معظم الأعمال الحربية هي في مناطق الريف، وهي أساساً كانت تعمل في الأرض إلى جانب زوجها أو أخيها أو والدها، أمّا الآن فإن غياب الرجل في كثير من العائلات جعلها تقوم بكل مراحل العمل في الأرض من الحراثة والبذار إلى العزق والتقليم وجني المحصول وتسويقه أيضاً...
بل إن إحداهن أبدت استعدادها لامتهان العتالة، لتنافس الرجال في مهنة شّاقّة وقاسية بعد أن سُدَّتْ في وجهها أبواب العيش الكريم. فيما سوق العمل تطلب شباباً تفرقوا بين المقابر والمنافي والخدمة في الحرب سواء في الجيش أو الميليشيات التي تعددت وتنوّعت في كل بقعة من الأرض السورية.
إنه أفقٌ شبه مسدود يواجه المرأة السورية في زمن الحرب، ولا حلَّ أمامها سوى التَّحدي وخوض غمار معركتها هي، معركة الحياة في زمن معارك الموت التي يخوضها الآخرون على امتداد الوطن. المرأة السورية تحارب من أجل حياتها وحياة أطفالها ببسالة تجعلها البطل الأبرز في هذه الحقبة المظلمة من تاريخ بلادنا.