تشهدُ بعض مناطقِ البلاد مِنْ وَقْتٍ لِآخَر نزاعات عشائريّة مسلّحة؛ لجملةِ أسبابٍ فِي مقدمتِها التضامن في أخذِ الثَّأر عَلَى وفقِ أعراف قَانُونُ القبيلة، الخلافات المَالِيَّة، التنافس عَلَى عائديةِ الأراضي الزَرّاعية أو الممتلكات، تصفية الحسابات الشخصية وَغيرها مِنْ العواملِ المساهمة في إنضاجِ موجبات تنامي فاعلية هَذه الظَاهرة الَّتِي تُعَد حالياً مِنْ أبرزِ المُشْكِلاتِ المهددة للسلمِ الأهليّ إذا ما عظمت وتطورت؛ لمساهمتها فِي إنضاجِ بيْئَةٍ ملائمةٍ لشيوعِ النزاعاتِ الدموية وَتوفيرها الأجواء المناسبة لارتكابِ جرائم السلب وَالمساومة وَغيرها مِنْ أنْشِطَةِ عصابات الجريمة فِي ظلِ ضعف سلطة القَانُون، وَعجز الأجهزة الأمنية عَنْ إيقافِ هذه الممارسات، وَحسم ملفاتها بموجبِ التشريعات النافذة، وَالَّتِي أكثرها غرابة الإخفاق بملاحقةِ مرتكبي الجرائم وَالمخالفات القانُونية نتيجة خشية أغلب العناصر فِي المَنْظُومَةِ الأمنية مِنْ مقاضاتِهم عشائرياً، وإلزامهم دفع الدية؛ لاحتماءِ الجاني أو المخالف بنفوذِ عشيرته مِنْ طائلةِ سلطة القَانُون، الأمر الَّذِي أفضى إلى التأثيرِ بشكلٍ كبير عَلَى الواقعِ الأمني فِي محافظاتٍ مهمة مثل البصرة وميسان وَمناطق أخرى بفعلِ تفاقمِ ظاهرة الاقتتال العشائري فِي بعضِ قرى البلاد وَمدنها، وَالَّتِي لم تسلم مِنْ تداعياتِها حتى العاصِمة بَغْدَاد. وَلعلَّ مِنْ المهمِ التنويه هُنَا عما حصل فِي المدةِ الماضية مِنْ تجاوزاتٍ على الثوابتِ الوَطَنيّة، ولاسيَّما ما يتعلق منها باصطدامِ بعض العشائر مَعَ القواتِ الأمنية الَّتِي فرضت عليها شدة الاشتباكات المسلحة، وَطبيعة الأسلحة المستخدمة فيها التدخل لفَضِّها وَحسْم أَمْرها بقصدِ بسط الأمن وَالمحافظة عَلَى أرواحِ المواطنين وَممتلكاتهم.
يمكن القول إنَّ قرارَ مجلس محافظة ميسان فِي النصفِ الثاني مِنْ شهرِ آبٍ الماضي، عزمه استقدام قوة أمنية مِنْ خارجِ المحافظة، لم يكن انعكاساً لحالةٍ طارئة تفوق متطلبات مواجهاتها قدرات جهد المحافظة الأمني، إنما يُعَد فِي واقعِه الْمَوْضُوعي إشارة إلى وقوعِ أَزْمَةٍ تتجسد بخرقٍ أمني عالي المستوى، يقتضي تحركاً سريعاً لردعِ مثيريه بعد أَنْ استفحلتْ مسبباته، وَالَّتِي أشدها خطورة بحسبِ حكومة ميسان المحلية هو ما تجسد بالولاءاتِ العشائرية لمنتسبي الأجهزة الأمنية، وَعدم تطبيقهم إجراءات فرض القَانُون فِي مناطقِ النزاعَات العشائرية!!.
الْمُلْفِتُ أَنَّ ما جرى إبرامه مِنْ اتفاقاتٍ وَمواثيقِ شرفٍ ما بين مجموعة مِنْ العشائر، لا تزال تطبيقاتها أوهن مِنْ بيتِ العَنْكَبوت أمام لغة الصراع المسلح فِي قاموسِ المفَاهيم العشائرية، وَلعلَّ أحدث ما شهدته البلاد ضمن هَذَا المنحى هو فاجعة يوم أمس الجمعة فِي منطقةِ نهر العز التابعة لقضاءِ المجر الكبير جنوبي مدينة العمارة، وَالَّتِي أرعبت السكان المحليين وأثارت استغراب الآخرين؛ جراء تسببها بمقتلِ خمسة اشخاص بينهم شرطي، وَإصابة سبعة أفراد بينهم امرأة؛ نتيجة لاندلاعِ نزاعٍ عشائري مسلح استخدمت فيه الأسلحة النارية المتوسطة ما بين عشيرتين؛ لحصولِ خلافٍ حَوْلَ ملكية جاموسة واحدة !!.
النزاع الَّذِي استدعى تدخل الأجهزة الأمنية فِي المحافظةِ التي تبذل حالياً جهوداً للوسَاطةِ بقصدِ فضِ النزاع حول هذه الجاموسةِ المتمردة يعيد إلى الأذهانِ الصورة المأساوية لحربِ البسوس الَّتِي وقعت أحداثها المروعة إِبّان العصرِ العدناني – فِي القرنِ السادس الميلادي – وَالَّتِي استمرت ما بين تغلب وَبكر لأربعين سنة ثقيلة بعد أَنْ أطلقَ شرارتها الأولى جساس بن مرة الشيباني البكري حين قتل ابن عمه كليب بن ربيعة بتحريضٍ مِنْ خالته البسوسِ بنت المنقذ بن سلمان المنقذي، وَالَّتِي قتل جساس ناقتها، وَتجدر الإشارة إلى أنَّ هَذه الحقبةِ شهدت بعض الحروب كَحربِ داحسٍ وَالغبراء ما بين قبائَل عبس وذبيان وطي، وَحرب الفجار ما بين قبائَل قُرَيْش وَقبائل هوازن وَقبائل سليم وَعدوان.
هل سيعيدنا قَانُون القبائل مِنْ عصرِ التطور التِكْنُولُوجيّ إلى حقبةِ الحروب الَّتِي وقعت ما بين عام الفِيل وَعام البعثة ؟!.