فيلم “3000 ليلة” للمخرجة الفلسطينية مي المصري لم يكن عاديا في كل تفاصيله وثناياه منذ أولى لحظات عرضه في تونس، ضمن فعاليات الدورة السابعة والعشرين لأيام قرطاج السينمائية المنتهية حديثا، فهو يتجاوز كل حدود الإبداع والتألق في حبكته الدرامية وسرده لتفاصيل قصته الروائية المتمثلة في نساء سجينات يعانين ويلات وآهات داخل سجون المحتل.
الفيلم يحكي قصة السجينات الفلسطينيات بطريقة جذابة ومنفتحة ويروي عطشهن للحرية وقدرتهن على التعايش والتسامح والانتصار على كل الظروف، فهو يعبر عن قصة مستوحاة من واقع يعيشه الفلسطينيون، الواقع ربما يكون أكثر قسوة، لكن سيناريو الفيلم كان محبوكا لنقل معاناة الناس، كل الناس.
“3000 ليلة” فيلم من بطولة ميساء عبدالهادي، نادرة عمران، رائدة أدون، كريم صالح، عبير حداد، هيفاء الآغا، أناهيد فياض، ركين سعد وهنا شمعون، لم يتناول قضية النساء الأسيرات من زاوية مملة ومعتادة ومتكرّرة في أفلام وثائقية وسينمائية ومقالات لكتّاب عمالقة لم يجيدوا حتى اللحظة نقل معاناة النساء، كل النساء، حيث نجد في الفيلم قصصا كثيرة وهدفا وحيدا هو الحرية!
قصة الفيلم كانت أكثر قربا لما يحتاجه الفلسطيني من أجل فضحه وكشفه للعالم، وخاصة نقل معاناة النساء اللواتي يعانين الأمرّين: قسوة المحتل وقسوة الواقع المجتمعي وخبثه في البعض من الأحيان، حيث لم يكن المحتل “الجبان الوحيد” في الفيلم بل كان أيضا زوج البطلة.
ما قدمته المخرجة مي المصري في فيلم “3000 ليلة” يعبّر عما يختلج في صدر الكثيرين من حاجة إلى تسليط الضوء على واقع المرأة المرّ، والتي رغم ما تقدمه وقدمته خلال المسيرة النضالية للشعب الفلسطيني، إلا أنها مازالت “موضع شك”، لكنها قوية وصاحبة إرادة صلبة.
الفيلم يروي قصة “ليال” التي حكم عليها بالسجن 8 أعوام، لأنها لم ترض أن تلصق أي تهمة لـ”المخرب”، بحسب المفهوم الإسرائيلي، حيث اقترح عليها زوجها لتنال البراءة أن تزعم أمام المحكمة أن الشاب هددها بسكين قبل أن يفر من مكان تنفيذه هجوما على إسرائيليين.
“3000 ليلة” قضتها البطلة في سجن فيه كل صنوف التعذيب النفسي والجسدي، فيه الولادة المكبلة بالأصفاد والحارس غليظ القلب، فيه كل شيء ممكن أن يكون قاسيا ومتوحشا وقاتلا.
بطلة الفيلم لا تنحني لجلادها، تظل تقاوم وتقاوم منذ لحظة اعتقالها ومحاكمتها بتهمة ملفقة، وهي “مساعدة مخرب”، مرورا بضغوط غرفة التحقيق ومن ثم ولادة طفلها الوحيد وحصارها داخل سجنها القاسي.
البطلة في الفيلم منتصرة بلا منازع، انتصرت على كل شيء، على زوجها الذي تخلى عن كل شيء من أجل “مصلحته”، وانتصرت على “شكوك” زميلاتها بأنها “جاسوسة” لمديرة السجن الذي يضم أيضا مجرمات إسرائيليات.
وفي قصة الفيلم الذي ينقل واقع الأسيرات في سجن نابلس خلال فترة ثمانينات القرن الماضي، كانت المرأة هي ملكة القصة وبطلتها اللانهائية، كانت عبارة عن امرأة غير مهزومة، باحثة عن الحرية، وقادرة على أن تصمد إلى النهاية، المرأة كانت هي المحرك لكل شيء حتى لانتفاضة الرجال في السجن المحاذي لسجنهن.
وفي الفيلم نساء يحاربن نساء، ونساء يقاتلن من أجل الوطن وينتصرن، لم تكن المعركة نسائية بين إسرائيليات وفلسطينيات، كانت معركة بين سجان وسجين يبحث عن الحرية.
كان هناك قتال داخل أسوار السجن، نقاش لا ينتهي إلا بالأيدي والسباب، محاولات لإرغام الأسيرة على الرضوخ لأوامر السجان، كانت هناك حرب بالدبابات في بيروت (تتم مشاهدتها بالتلفزيون من السجن) وحرب أخرى مع الأغلال والأصفاد وكتم للأنفاس، وهي حرب لا تنتهي ما دام هناك قتل للآخر وعدم اعتراف بوجوده.
وهناك أيضا حب في الفيلم، حب سجين وسجينة، حب داخل مستشفى وآخر في سجن ملاصق، وهناك أيضا حب من نوع آخر، حب الأم البطلة لطفلها الأسير، حب الأم والصديقة وحب الحبيبة.
فيلم “3000 ليلة” قدم جرأة غير عادية في طرحه لأكثر من قضية، وخاصة لجهة مساعدة البطلة “لعدوتها” السجينة الإسرائيلية، والتي قدمها الفيلم شبه ميتة بفعل تعاطيها للمخدرات، لكن ليال ساعدتها ووقفت معها إلى أن تعافت والأخرى أيضا “ردت الجميل”!.
ولم يغب الضحك والفكاهة عن تفاصيل الفيلم، سيناريو وقصة أكثر من رائعين لفيلم يجسد الروح القابلة للتجدد مع كل ظرف وعصر. وفي الفيلم لم تكن هناك بطلة وحيدة، كانت هناك أخريات يعانين داخل أسوار السجن منهن المثقفات والمناضلات والبسيطات ولكل منهن حكايتها.. هن انتصرن في النهاية.