سامية السباعي، سيدة خمسينية، قررت بعد تجارب حياتية عدة، أن تشترك في جلسات الحكي مع رفيقاتها، على أن تكون الخصوصية شرطاً لها. في البداية كان الأمر لا يخرج عن نطاق “الفضفضة”، لكن بمرور الوقت تطورت هذه الفضفضة مسهمة بذلك في اتساع مساحة “البوح” لتذوب فيها أوجاع روحها ومتاعبها.
هذه السيدة التي قادتها قدماها بعد تجربة زواج دامت قرابة الـ30 عامًا ثم فشلت، إلى تلك الجلسات، كانت ترقب في البداية المشتركات في جلسات الحكي، وتتابع من أين يبدأن ومتى يتوقفن، وهل هناك خطوط حمراء لا يقتربن منها، أم أنهن يتركن العنان لأنفسهن بأريحية شديدة؟
وتروي جانبا من قصتها قائلة “كظمت غيظي وإحساسي بالقهر، ولم يكن لي أحد لأفضفض أمامه، وعندما لجأت إلى الأقارب نصحوني بأن أتحمل وأعيش ما تبقى من عمري مع هذا الرجل، لأنه لم يرتكب خطأً عندما تزوج من امرأة ثانية، وهذا أمر لا يتنافى مع الشرع”.
وأضافت “لم أستطع تحمّل ما لا طاقة لي به، أو مسامحة ذلك الزوج الذي غدر بي، ولم يراع سنوات العمر التي أفنيتها في خدمته هو وأطفاله، وقد دلتني إحدى الصديقات على مكان تذهب إليه للفضفضة والحكي، مع مجموعة من رفيقاتها، تُخرج فيه طاقتها السلبية الكامنة”.
جلسات الحكي أو الفضفضة لدى السيدات، تتم غالبا داخل نطاق دوائر صغيرة، تضم الصديقات والجارات، وتتسع حسب المكان الذي تقام فيه، حيث يمكن لكل واحدة منهن أن تأتي معها بأخريات.
في تلك الجلسات تتشابك خطوط الحكي المتقاربة شكلا ومضمونا، فما يثار فيها لا يخرج عن نطاق مشكلات المرأة اليومية، سواء كان المتسبب فيها الزوج أو الأبناء، أو الأهل، أو حتى الأصدقاء.
نبيلة سلام، تستضيف الصديقات لعقد جلسات حكي في منزلها يومًا واحدا في الشهر، حيث يتجاذبن أطراف الحديث، وتقول لـ“العرب” “كان الأمر في البداية عبارة عن دائرة صغيرة من الصديقات، نفضفض ونبوح ( بما يعتمل في أنفسنا من هواجس) ونأكل ونشرب ونبكي ونضحك، ونربت على أكتاف بعضنا البعض، ونساند وننصح بعضنا البعض، ثم بعد ذلك شرعت الصديقات في جلب صديقاتهن وجاراتهن”.
وأكدت قائلة “نحن لسنا خبيرات في الطب النفسي، ولا نقدم نصيحة للتي تحكي، فهي جاءت لتحكي وتفضفض فقط”، وتقول “إن الأمر بعيد كل البعد عن الغيبة والنميمة، حيث نحرص جميعاً على ألا تتدخل الواحدة منا في شأن الأخرى”.
وكشفت دراسات نفسية كثيرة، أن الفضفضة والحكي أمران مفيدان ويريحان النفس من أوجاعها، لكن شرط أن يكونا في إطار علمي ومدروس.
وأوضحت سامية خضر، أستاذة علم الاجتماع في جامعة عين شمس بالقاهرة لـ“العرب”، أنها لا تحبذ تلك الجلسات، وتعتبر حكي السيدات لبعضهن البعض والبوح بأسرارهن وأسرار بيوتهن، أمرا غير إيجابي، وتلفت إلى أن هناك ما يسمى بـ“لذة البوح”، لا سيما إذا اجتمعت سيدات كثيرات في مكان واحد، عندئذ يبدأ الأمر بكلمة، لينتهي بإخراج كل ما في جعبتهن من أسرار، فيعلم بها كل عابر سبيل.
ومهما كانت السيدة حذرة في انتقاء الأشخاص الذين تثق في الحكي لهم، فإن الأمر سينتشر، وذلك وفقا لما تقوله الحكمة الشائعة “السر إذا تجاوز اثنين شاع”.
وحذرت خضر السيدات من الوقوع في براثن تلك الجلسات، وإذا كان هناك ما يتعب النفس فيجب أن تلجأ السيدة إلى طبيب نفسي. وتنصح خضر بالمحافظة على أسرار العائلات، وبألا تحكي المرأة مآسيها سوى لمن تثق فيهم، من الأهل والأصدقاء، بهدف الفضفضة والترويح عن النفس.
وتتبع البعض من المنظمات النسوية منهاج الفضفضة في السنوات الأخيرة، بل وتضع عناوين لتلك الجلسات، باختيارها قضايا تؤرق النساء، كالتحرش الجنسي، وتأخر الزواج، والطلاق، والخيانة، والعنف الأسري، وغيرها من المشكلات التي تؤرقهن، وتتسب في انهيار ركائز كثيرة في حياتهن.
ونظرًا إلى أن السياسة طغت على كل ما يمر به المصريون من أحداث، وارتبطت بها الحياة بشكل أو بآخر، عقب ثورة 25 يناير 2011، فإن الأحاديث السياسية تفرض نفسها على تلك الجلسات، الأمر الذي يثير حفيظة الأمن المصري تجاهها، ووجه نداءات واضحة مؤخرا تحذر من إقامتها.
وقالت مُزن حسن، المديرة التنفيذية لجمعية “نظرة” للدراسات النسوية بالقاهرة “كنا نقيم جلسات الحكي والفضفضة لسنوات طويلة، وكانت ناجحة للغاية، ويقبل عليها الشباب من الجنسين، إلا في حالة القضايا التي تتميز بخصوصية نسوية، فقد كانت تقتصر على النساء فقط”.
وتابعت قائلة “أحيانًا كنا نختار خطاً واحدًا للحكي، وفي أوقات أخرى كان الحاضرون يختارون القضية التي سيحكون بشأنها، ولا تتعدى الجلسات نطاق الحكي، دون مشورة أو نصيحة من أحد لأحد.
ولفتت مُزن إلى أن تلك الجلسات كانت مفيدة للغاية، ففيها خلاصة تجارب وخبرات، فيها الجيد وفيها السيء. وقد حظر الأمن المصري على مؤسسة “نظرة” إقامة الجلسات خشية تأثيراتها السلبية وكشف الأسرار، وكان أعوان الأمن متخوفين من أن تكون الجلسات ذات بُعد سياسي.
وأيدت هناء أبوشهدة، أستاذة علم النفس بجامعة الأزهر، توجه الأمن المصري إلى إلغاء ما تسميه منظمات المجتمع المدني، خصوصًا النسائية، “جلسات الحكي والفضفضة”، خشية أن يكون الهدف من وراء تلك الجلسات التحدث في أمور سياسية، وقد تصبح الغاية من ورائها زرع الفتن، والتآمر المجتمعي.
المشكلة أن تلك اللقاءات، والتحدث بأريحية عن أدق التفاصيل والأسرار، أمر غير مستحب لدى الرجال، خوفا من أن تستتر خلفه أمور سيئة للغاية، لها أهداف غير مُعلنة.