لم تعد تذكر نادية لما تزوجت، كان ذلك منذ أكثر من عشرون عاماً مضت، عانت خلالها كل أنواع المعاناة من الفقر والتعنيف إلى حرمانها من أبناءها الأربعة لعدم قدرتها على إعالتهم نتيجة طلاقها المبكر بعد خمس سنوات فقط من الزواج، وهي التي تزوجت في الرابعة عشر من عمرها.
ولكنها ما زالت تذكر جيداً كيف أنها كانت تقف بجوار شباك غرفتها المطل على الزقاق كل يوم تسترق النظر لقريناتها الذاهبات إلى المدرسة، فقد كان التعلّم غصتها الأولى وحلمها الأخير.
الأسباب
نادية واحدة من آلاف القاصرات اللواتي استسلمن للموروث الاجتماعي المتمثل بالعادات والتقاليد، للجهل وقلة وعي الأهل، للخوف من شبح العنوسة، أو الفرار من الفقر والعوز.
ليست هذه الأسباب سوى بعض من كل، يضاف اليها الخوف من الانتهاكات، كالتحرش والاغتصاب، وخاصة أثناء الأزمات والحروب، إضافة إلى التسرب المدرسي والأمية. كلها أسباب تؤدي إلى الزواج المبكر للقاصرات والقاصرين كذلك، حيث لا يستثنى في الزواج المبكر جنس دون آخر، وإن كانت النسبة العليا في الزواج المبكر من الإناث.
مشروع قانون
ومن أجل هذا أطلق التجمع النسائي الديموقراطي اللبناني مؤخراً مشروع قانون "حماية الأطفال من التزويج المبكر" ويتألف مشروع القانون من 6 مواد أعده كل من القاضي جون القزي، الدكتورة ماري غنطوس، الدكتور عمر نشابة، والأستاذة ندى خليفة. هدفه وضع حدّ أدنى لسن الزواج في ناريلبنان وهو سنّ الثامنة عشرة للجنسين، ويطبّق على اللبنانيين وجميع المقيمين على أراضي الوطن، ويفرض عقوبات على أي شخص يتورّط في تزويج قاصر.
تقول نائبة رئيسة التجمع النسائي كارولين سكر صليبي بأن التجمع منذ تأسيسه عمل على محاربة العنف القائم على النوع الاجتماعي وقد لمس عن قرب الانعكاسات السلبية والآثار الصحية والنفسية والاجتماعية الناتجة عن زيجات صغار السن، من لم تصل أعمارهم إلى سن الثامنة عشر، وخاصة الفتيات، وكانت هذه الزيجات لا تخلو من الإكراه، الخطف، الاستغلال، إساءة المعاملة وحرمانهن من حقوقهن، في ظل ضعف آليات الحماية القانونية للقاصرات، وضعف تطبيق آليات قانون حماية الأحداث، وحياد الدولة تجاه حماية الأطفال وإعطاء السلطات الدينية أمر تنظيم الأسرة ومنها سن الزواج.
وتؤكد المحامية عتيبة المرعبي العضوة في التجمع على أن مشروع القانون هذا يأتي متجانساً مع الاتفاقيات الدولية والمعاهدات الموقعة من قبل لبنان والمصادق عليها والتي ركزت على حماية وتمكين النساء للتمتع بحقوقهن، منها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، العهد الدولي الخاص للحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، إتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، وقد أعلنت المرعبي عن عزم التجمع على تشكيل شبكة وطنية تضم حلفاء من جميع الخلفيات والمؤسسات بهدف الضغط من أجل تبني إقتراح القانون وإقراره في المجلس النيابي تمهيداً لوضعه حيّز التنفيذ، والذي أصبح ضرورة ملحة في ظل تنامي حالات الاتجار بالبشر تحت مسمى الزواج.
دراسة اجتماعية
وقد جاء هذا القانون كإحدى التوصيات الصادرة عن دراسة اجتماعية استطلاعية قام بها التجمع النسائي الديموقراطي اللبناني من أجل كشف حقيقة واقعات تزويج الصغيرات في مجتمعنا اللبناني والأساليب المعتمدة لإتمامها، وتقدير حجم المستهدفين بها، والتعرّف إلى السمات الاقتصادية والثقافية والسكنية للوسط الاجتماعي الذي تحصل ضمنه، والنتائج المتوقعة على الصحة الجسدية والنفسية والاجتماعية لدى الفئة المعنية، وكان أمراً لافتاً العينة التي خضعت للدراسة، فقد كان نسبة 66.8% منها من الشمال، مقابل 9.8 % من لبيروت وجبل لبنان و 23.4 % للبقاع، وقد تبين للباحثين بمراجعة سجلات المحكمة الشرعية السنية في بيروت، أن عقود زواج القاصرات لا تُجرى أكثر من عدد أصابع اليدين في السنة الواحدة، نظراً لضعف الميل نحو الزواج المبكر (دون السن)، ولتشدّد القضاة السنّة في المدن في منح الإذن الشرعي لعقد مثل هذا الزواج، وبالتالي يندر الالتقاء بزوجات قاصرات حالياً لاسيما في العقد الأخير 2005- 2015، وهذا بخلاف مناطق الشمال، وخاصة الريفية والفقيرة.
وقد بينت الدراسة تفاوتاً في إعطاء تراخيص الزواج للسن المبكر بين الطوائف مما يفسر ازياد نسبة النسبة الزواج المبكر في مناطق دون الأخرى.
إنعكاسات تزويج القاصر ونتائجه
وقد أظهرت الدراسة انعكاسات زواج القاصر السلبية على صحتها الجسدية، وعلى نموها الذهني ونضجها الانفعالي والنفساني وبالتالي على سلوكها وتصرّفاتها الاجتماعية، وانعكاس ذلك على استقرار الأسرة الناشئة والحياة الزوجية فيها.
فمن الناحية النفسية يؤدي الزواج المبكر إلى الحرمان من التمتع بالطفولة والحرمان من الحق بالتعلم مما ينتج شخصية ناقصة وغير متوازنة تؤدي في أحياناً كثيرة لشعور القاصر بالدونية كونها شكلت عبئاً اقتصادياً ومعنوياً على عائلتها، وأنها عوملت كسلعة تم المتاجرة بها، كما قد تشعر بعدم الاحساس بالأمان للشعور بتخلي الوالدين عنها وهي بأمس الحاجة لرعايتهما وحنانهما.
ويزيد الأمر سوءاً بروز الخلافات الزوجية والتعرض للتعنيف بكل أشكاله المعنوية واللفظية والبدنية والمادية، وما يترافق مع ذلك من احساس بالصدمة وآثار ما بعد الصدمة كالاكتئاب والهستريا، وليس مستغرباً حينها الطلاق الذي وصلت نسبته إلى 31 % في المحاكم اللبنانية.
الآثار الصحية والجسدية
هذا وتعد مكونات الجسم في هذا السن الصغير غير قادرة على تلبية متطلبات الزواج، لأنَّ اكتمال البلوغ قد يأخذ سنوات متعددة ويستمر حتى الثامنة عشر من العمر، وظهور مؤشر أو مؤشرين للبلوغ ليس دليلاً على اكتمال نمو الجسد وأنه أصبح مستعداً للزواج، فهذه المؤشرات الجسدية لا تعدو على أن تكون بداية لمرحلة قد تمتد من خمس سنوات إلى ست سنوات بعد بداية البلوغ.
وتعتبر أبرز المخاطر الصحية التي تتعرض لها القاصرات نتيجة ضعف بنيتهن الجسدية، وأكثرها انتشاراً، هي النزيف والتمزق في الأعضاء التناسية نتيجة العلاقة الجنسية، اضطرابات في الدورة الشهرية، اضطرابات وعدم توازن في العلاقة الجنسية مع امكانية تعرض الطفلات إلى الاغتصاب الزوجي بفعل عدم إدراكهن لطبيعة العلاقة، وتتعقد الأمور كثيراً مع الحمل المبكر الذي يؤدي إلى ظهور التشوهات العظمية في الحوض والعمود الفقري، وارتفاع نسبة العمليات القيصرية نتيجة تعسر الولادات، ارتفاع نسبة الوفيات نتيجة المضاعفات المختلفة للحمل وازدياد نسبة هشاشة العظام بسبب نقص الكالسيوم مع تكرار الحمل والعلاقة الجنسية، إصافة إلى تشوهات الجنين المختلفة نتيجة نقص النمو أو اختناقه، كما أن الفتاة تظهر عليها آثار الشيخوخة المبكرة مقارنة بقريناتها.