قسوة وسوء معاملة، قلة اهتمام وسلوك مريب وغير مفهوم، ثم القليل القليل من الحب، هذه هي العوائق التي توصف بأنها علامات الفشل الأولى في نسيج أي علاقة بين اثنين والتي إن قدّر لها (العلاقة) أن تستمر إلى حين لأسباب مجهولة، فسيطالها الكثير من التشويه. فإذا ما صادفتك الشجاعة أو الوقاحة لتسأل هذا الصديق الحزين سؤالا صريحا ومباشرا “وما الداعي للاستمرار إذا؟”، يأتيك الرد واضحا أيضا ومن دون تردد “لأني أحبه” أو لأني “أحبها!”.
هكذا يفعل الكثير، وغالبا ما يرتكب طرفا العلاقة الأخطاء ذاتها من دون وعي، نتسبب في جرح مشاعر الآخر، ننتقص منه، نتعمد إزعاجه ونسخر من سلوكه من دون سبب معروف. هذه التفاصيل البسيطة، تبدو كأوراق شجر يابسة غير ذات قيمة يمكن أن تطفو على سطح نهر الحب بين الحين والآخر من دون أن تعكر صفوه، لكن صوت احتكاكها المزعج أثناء هبوب الريح قد يكدر سريان المياه الرائقة ويحيل النهر إلى مجرد بركة من وحل، لذلك، فإن الوقوع في الحب في نظر البعض مغامرة غير محمودة العواقب يمكن أن تعرضهم للأذى وقد تجعلهم ضحايا الآخر.
تعتقد الدكتورة ليزا فايرستون؛ أستاذة في الطب النفسي ومديرة الأبحاث والدراسات في معهد جليندن في ولاية كاليفورنيا الأميركية، أن في علاقات الحب هناك سوء فهم يتعلق بماهية الحب نفسه وتعريفه، فالعديد من الناس يعتقدون بأن الحب هو شعور تلقائي، أنه شيء ما يحدث لنا فحسب أو ما يصطلح عليه بـ(الوقوع) في الحب، وكأن لا سلطة لنا أو خيارا في ذلك. وعلى الرغم من أننا لا ننكر بأن مشاعر الحب أشبه بقوى خارجية تتسلط علينا فجأة ومن دون مقدمات، إلا أن بعض الناس يخفقون أو يعترفون بأن مقدرتهم على قبول ومنح الحب الحقيقي، غالبا ما تكون محدودة، فضلا عن عجزهم عن التعامل مع هذه القوى الخفية ومحاولة تطويعها وتهذيبها.
تقول فايسترون “كلنا يعاني، إلى حد ما، في الإبقاء على جذوة الحب والتواصل بالمشاعر الجميلة مع من نحب، ومنذ ولادتنا فإن البيئة النفسية لنا تكون مهيأة تماما لتلقي مشاعر مثل الحب والألفة والتعاطف، من قبل أناس قريبين يقفون في محيطنا العائلي الضيق؛ الأم والأب والأشقاء وغيرهم، فإذا لم نتلقَ ما يكفينا من الحب والحنان من هؤلاء في هذا الوقت المبكر من حياتنا، فستغمرنا مشاعر بديلة مثل الشك في ذواتنا وعدم ثقتنا بأنفسنا وربما يصل بنا الأمر إلى كراهية وجودنا ذاته.
ولهذا لن يكون بمقدورنا – في المستقبل- أن نمنح مشاعر لا نمتلكها للآخر أو أن نتقبل مشاعره هو، من دون وقوعنا في شرك الخوف من أن ما نمنحه قد لا يعود إلينا ثانية، فنبدأ ببناء الحواجز بيننا وبين من نحب ونحتفظ بكل المشاعر لأنفسنا وكأنها مرآة رائعة وفريدة نخشى أن يخدشها الآخرون، وربما ينظر إلى الشريك كمصدر تهديد أو أذى أو يتوقع أن يكون كذلك، والأكثر غرابة، وعلى الرغم من ذلك، فإن هؤلاء عرضة لأن يكونوا ضحية علاقة يمارس فيها الطرف الآخر الإساءة والأذى هذه الإساءة التي تبدو لهم قديمة مألوفة وربما محتملة!”.
ومن وجهة نظر علم النفس، فإن منح الحب وتلقيه هما أكثر ما يقوّض دفاعاتنا التي نحصّن بها أنفسنا أو طرقنا التي أعددناها مسبقا لمنع الأذى من أن يصل إلينا؛ فالشخص الذي يتعرض للإهمال من قبل والديه في الطفولة، يعاني كثيرا في ما بعد إذا تطلب منه الأمر الانفتاح على الآخرين أو الاعتماد عليهم، والأمر ذاته ينطبق على حالة الحب. في الحب هناك تحد للصورة الذاتية السلبية التي قد تسبب أزمة في الهوية وهي المسؤولة عن عدم شعور البعض بالارتياح للتقارب مع الآخر ولهذا السبب، يميل البعض إلى استبدال مشاعر الحب الحقيقية بالخيال، فيضحّون بصلة وعلاقة حقيقية ويعيشون داخل وهم يصنعونه بأنفسهم يسمح لهم بالاحتفاظ بفكرة الحب، ولكن من دون اتخاذ أي إجراء أوسلوك يعزز من هذا الحب ويزيد الروابط مع الآخر.
يشير عالم النفس الألماني إريك فروم (1900 - 1980) في كتابه “فن الحب” إلى أن هناك دليلا واحدا على حضور الحب، عمق العلاقة والحيوية، والقوة في شخص كل منهما، هذه هي الثمرة التي يدرك بها الحب.
وهو يرى أن الحب ليس مجرد شعور بل هو سلوك ينطوي على مهارة العطاء للآخر، إذ أن الطابع الإيجابي للحب يظهر جليا من خلال الرعاية، الاحترام والمسؤولية تجاه الآخر فالحب الحقيقي يأتي من التناغم والمشاركة والعطاء والدعم.
فيعني “أن يعطي الآخر من ذلك الشيء الحي فيه، أن يعطيه من فرحه، من شغفه، من فهمه، من علمه، من مرحه، من حزنه، من كل التعابير والتجليات لذلك الشيء الحي الذي فيه”، إنه يعزِّز شعور الآخَر بالحياة وذلك بتعزيزه لشعوره هو بالحياة.ويؤكد فروم على أن الحب نشاط وليس شعورا سلبيا، إنه “الوقوف” وهو الحالة الدائمة لأن يكون الفرد في حالة حب، وليس “الوقوع” فيه لحظة اكتشاف الحب. “إن حب شخص ما ليس مجرد شعور قوي. إنه قرار ووعد”. إذا كان الحب شعورا فقط بين شخصين فلن يكون هناك أساس لوعد بأن يحبا بعضهما للأبد.