أحتفاءً بيوم ميلادها، أقامت محطة مسموعة لبنانية (على الأف أم ) لقاءً صباحياً عبر الأثير يجمع نخبة من مُحبي وعشاق المُحتفى بها السيدة فيروز من جميع أقطار الوطن العربي ليرسلوا عبر مُداخلاتهم تحاياهم ومباركاتهم لها ،وهي الحلقة التي ستُقدم كهدية العام من المحطة للسيدة فيروز، كُنت الضيفة الليبية وقد خُيرت في شكل التحية التي سأقدمها ، وقد خمنت أن تهنئتي المتواضعة ومديحي لصوتها ومدرستها الغنائية المميزة فقط ستكون تكرارا لما سيفعله الضيوف من العُشاق العرب ، لذلك كان خياري أن أُشير بإلمامة مُلخصة تناسب الوقت الممنوح عن دور السيدة والأخوين رحباني في توظيف وإحياء التراث الشعبي اللبناني ( الفلكلور الشامي عموما) فتجربة فيروز الغنائية ( وسأعني النص المُستقى من بيئته واللحن بالطبع ) حملت إخلاصا للتراث من خلال تقديمه بطريقه تجمع بين الحفاظ على أصالته كنص ( نموذجها مثلا غناء الهدهده الخاص بالأطفال : يلا تنام يالا تنام لذبحلا جوز الحمام .. طير يا حمام لا تصدق بضحك ع ريما تتنام ..) ، وبين التطوير اللحني المُعزز والمُستفيد من إمكانات صوتها الحاني الشجي ،وفي مجال التوظيف التراثي فأعتقد أنه أتخذ ثلاثة مناحٍ ، أولها : استحضار فنون الأداء الشعبية كالموال والميجانا والعتابا والروزانا… كاستهلال يؤدي وظيفته في الأغنية ،وليس دخيلا مصطنعا، وثانيها : التراكيب اللحنية المُستحدثة ذات المرجعية التراثية المُتعارف عليها شعبيا ، وفي ظني أنه نوع من التوظيف يشابه ما مرت به الأغنية الليبية أيضا ،إذ يتم الإعلان عن ذلك بالقول أنه لحن شعبي متوارث جرى أحياؤه وتجديده ، ثالثها : إدخال الصيغ اللغوية المتداولة شعبيا كمقاطع مُضافة الى النص المُؤلف حديثا ، وهناك أكثر من إشارة لذلك في بعض الدراسات التي عنت بالمدرسة الرحبانية ، وما أكده بعض شعراء الأغنية الذين غنت لهم السيدة فيروز.
كما يُحسب لتجربتها التي كانت مُفارقة في مضمونها بما لم يجاري تاريخ الأغنية العربية في مرحلة من مراحلها التي انشغلت بشقاء الحب وعذاباته بين الطرفين ، فكلاهما يشكو غيابا وهجرا وغيرة مما أظهر تكرارا بدا فجا وساذجا مُبالغا فيه في بعض مما استغرقته الفكرة والصياغة اللحنية أنذاك ، كانت تجربتها ( الغنائية والمسرحية) تستحضر مناخات الأماكن الشعبية الحميمة وأُناسها : الضيعة ، والطاحونة ، والقرية، والنبع ،وتفاصيل حياة وليالي : سهر الرعاة ،والمزارعين، والصيادين، والبياعين ، ... وبالإمكان إضافة أن صوت فيروز القوي المُندفع ( في بعض حالاتها التي يتطلبها السياق الغنائي) كان ناقلا وواصفا بحيويته لسلوك وقيم مجتمع يرى في النخوة والعزة والشهامة، والشرف، وحب الوطن والدفاع عنه،والتضحية والتمسك بكل ما هو نبيل مسوغا لحياة حرة تنأى عن التزلف والابتذال ، و تغليب ماديات الحياة الزائلة ، نموذج ذلك ( خبطت قدمكن ع الأرض هدارة انتو الأحبة وألكون الصدارة )، وغيرها كثير.
وقد قدمت عبر الكلمات التراثية التي قاربها صوتها واصفا مشهدا ، أو حدوثة درامية ناقلة للسامع أجواء عايشها أهلها لعلها اختفت في يومنا هذا ، لتصبح بعد مرور عقود من الزمن تسجيلا فنيا توثيقيا لجماليات رصدت جغرافيا المكان ، وعنصره الإنساني ، وكذلك المهن والوظائف الحياتية اليومية ومُستعملاتها التي تُشابه كثيرا ملامح وصفات بلاد العرب بأجمعهم، فأضحت فيروزنا ، بمدرستها موحدة وجامعة في ذلك ، ما عجز عنه صناع سلطتنا وقراراتنا !.
وأضفتُ في المُداخلة المتواضعة أن فيروز تحولت بحب الملايين المُشترك لصوتها ، ولما حملتهُ - في مضمون كلماتها - من قضايا إنسانية الى حالة فنية متفردة ، نسيج وحدها ، وهي من صنعت تاريخها بمثابرة مُخلصة وبجهد الرحابنة وشعراء تلك المرحلة ، مُقدسة لرسالة حملتها بصوتها الحالم المأمول ! الذي كان سفيرا للطهر والبراءة ، والمحبة ،والبساطة ،والتسامح ،وأعلنتُ في المداخلة أن صوتها الطربي كثيرا ما منحني دفقا من التفاؤل والأمل ،والأماني الانسانية الخيرة ، لذلك كان شذوها مُفتتح ما تطرب له أذني في أول صباحاتي ، وإن كنت لا أميل لفكرة تعيين مواقيت بعينها للاستماع إليها ،وقد كانت محطات عربية (مسموعة ومرئية) ولا زالت تستهل بثها صباحا بأغانيها وهذا حسن إذ يصبح للصباح دلالاته الجميلة رفقة صوتها ، لكنها تودعها فيما تبقى من بث برامجي يصلُ الليل بالنهار!،رغم أن الرحلة الغنائية المتنوعة للسيدة فيروز كانت ثرية وحافلة بما يناسب الأيام بنهارها وليلها وفصولها الأربعة !
لنا أن نشير أن الرحلة الثمانينية من فنها المبدع التي شهدت نتاج ما يُقارب الألفي : أغاني ، وموشحات ، ومسرحيات درامية غنائية ، شهدت انقطاعا أحياهُ فيما بعد أبنها الفنان زياد الرحباني ، باستثناء خروجها في بعض الحفلات التي عادت فيها الى خزانتها الغنائية الماضية... ثم عادت للانقطاع الفني ولها أسبابها ، وإن كان فراق صوتها الحي وأعمالها الجديدة ترك فراغا لم يشغله غيرها بالتأكيد .
كان الوقت المخصص لي كمشاركة من ليبيا قد قارب على الانتهاء وقد حاولت استثمارهُ بما أشرتُ لهُ هنا من نقاط فنية ، وحين قلت مُودعة : السيدة فيروز سيظل صدى تغريدها يتردد في أسماع عشاقها من أجيال مُختلفة عبر جغرافيا العالم كله ، فوجئت بمذيعة البرنامج ُتمطرني بالأسئلة من قبيل : هل هناك مستمعون لفيروز عندكم ؟ كم نصيبها من البث الإذاعي لديكم؟ فيروز غنت في عواصم عربية مختلفة لماذا لم تتم دعوتها للغناء في بلدكم؟ ماذا تُحملين أثيرنا من رسالة ليبية إليها؟ شكرتها على الإستضافة الرحبة ، وأجبت سريعا حسب معرفتي المتواضعة ، وختمت : لها من جمهورها بليبيا كل الحب وإن نأت عنها