كنت أجلسُ في عزاءٍ لمناسبة فقيدٍ صديق، نُثرتْ صحونُ الأرز الملون، بلون العُصفر، تحت كتل اللحم والشحم، المكتظة بالدهون، المحمولة في سيارة نقل صغيرة، الصحون البلاستيكية المكدسة تكفي روادَ مهرجانٍ كبيرٍ، أو وليمة، وسط مخيم للمشردين، كانت تملأ صندوق السيارة، على الرغم من قلة عدد الحاضرين، وكان هذا العددُ الكبير للصواني، من أجل أن ينتشي صاحب العزاء، أو من جاد بهذه الصحون، مفتخرا بكرمه، وبذخه، وهو يحاولَ هزيمةَ حاتمَ الطائي، بهذا الكرم الفيّاض!
هكذا شرع الفلسطينيون في تحويل جنازة الميت، من عزاء جميل لعائلة الميت، إلى مناسبة اجتماعية، لغرض عرض عضلات أهل الميت في مجال الكرم والجود!!
ازدهرت في هذه الأيام عادةٌ جديدة، وهي، تقديم الأكل ثلاثة أيام العزاء، وليس وجباتٍ صغيرة لأهل المَيِّت المشغولين بالعزاء، كما كان متبعا منذ سنوات قريبة، وأظن بأننا سنطور هذا العادة بعد فترة وجيزة، بحيث يُجبر أهلُ الميت على تقديم ثلاث وجبات في اليوم الواحد للمعزين، وليس وجبة غداء واحدة، حتى يصبح عددُ وجبات الطعام في الأيام الثلاثة تسعَ وجبات، صدقة عن روح الفقيد!
أما عدد الآكلين فتحدده الظروفُ، وموقعُ البيت، ومنزلة الميت وأهله، ويوم غداء العزاء، فمن يقدم الطعام للآكلين في يوم عادي، غير من يقدم الطعام يوم الجمعة، يوم العطلة، بعد صلاة الجمعة، حيث يُفاجأ أصحابُ العزاء بعددٍ لا يتوقعونه في هذا اليوم، فيتحول عزاء الألم، إلى إحراج مقيت لأهل الميت!!
المهم، أنني كنتُ أرغب في أن أضبط ساعتي، لأعرف الوقت الذي يستغرقه الآكلون – آسف – البالعون، في ابتلاع الطعام، فاستغربتُ، عندما وجدت بأن الجميع قد أنهوا أكلهم، وأجهزوا على محتويات الصواني من الأرز واللحم، في زمنٍ، يتراوح بين ثلاث دقائقَ، إلى خمس دقائق فقط!!
تذكرتُ ساعتها، بأنني كنتُ قد كتبتُ منذ زمن مقالا عن بلع الطعام في مجتمعنا، كعادة سيئة ذميمة وقلت:
إن الأطفال في بيئتنا لا يتعلمون الحد الأدنى من طريقة الأكل الصحية، وإذا لم يتعلم الطفل منذ صغره طريقة الأكل الصحيحة، والمضغَ الجيِّدَ، فإنه يكون عرضة للإصابة بكل الأمراض، فلا يتعلم طريقة الجلوس السليمة أثناء الأكل، ولا يعرف كيفية استخدام أدوات الأكل، والأبشع هو أنه لا يستخدم الأسنان في المضغ إطلاقا!
فأسنان أبنائنا الذين لم يتعلموا طريقة الأكل الصحيحة، أسنانٌ مصفوفة في صفين متوازيين لحفظ توازنهم أثناء الجري!! وهي أيضا مُخصصةٌ (لهبش) لحوم المنافسين من الأطفال، في جولات المصارعة في شوارعنا، وهي أيضا يمكن أن تساعد في تجميل البسمات!!
وأخشى أن تصبح الأسنان عند أكثر أطفالنا، ممن لم يتعلموا عادات الأكل السليمة، عوائق تحول دون عبور الطعام بسرعة إلى المعدة، فتصبحَ الأسنانُ زوائد َعظمية ثانوية، ستنقرض بعد عدة أجيالٍ!!
ولكي يتغلب البالعون للطعام على هذه العقبة فهم يملؤون زجاجة ماءٍ، ويضعونها في الجوار لاستخدامها بين كل مضغة وأخرى، فتصل (كعبولات) الطعام إلى المعدة في صورتها الأصلية أي كمادة خام !
ثم تتراكم فوق بعضها ككتل الإسمنت المسلح المتجمد القوي!
وما إن ينتهي الآكلون بلا أسنان، حتى تُعلن المعدة حالة الطوارئ، وتشرع في توظيف كل طاقات الجسم، وتسخر قوات جهاز المناعة، وتوجه شرايين الدماء، وتستنفد القدرات العقلية، لتتمكن من إذابة هذا الخليط!
تابعتُ مجموعات من الآكلين في أحد مطاعم ألمانيا، فوجدتهم يلاطفون اللقيمات، ويناجون الأطباق، ويُدلِّلون السلطات، وينتقون الغرفات، وهم يعتبرون الجلسة على الطعام، ليست للانتقام، بل متعةٌ من المتع ، ومن النادر أن تسمع أصوات الأكل، والخرش، والسرك، والمص!
أما عندنا، فالأكلُ معركةٌ، تبدأ دائما بسيمفونية البلع العاشرة، ثم تليها مقطوعة الأحَّات، ويتبعها كنشيرتو الكرعات، كل ما سبق تحت وقع اصطدام الأيدي والملاعق بالأطباق، بالإضافة إلى رقصات الأطباق المتحركة، وتهشيم الأكواب والصحون!