هناك حيث عزفت طيور الجنة ألحانها على وقع صلاة المحيط الزرقاء في الأوبرا هاوس في سدني كان اللقاء، مع اللحن العربي والشرقي، ومع كلمات الأغاني العربية التي تستثير المغترب عن أرضه، فتجعله في حضرتها متعبدا متبتلا، يستعيد في ثوانيها ذكريات الوطن الذي ارتحل عنه وما يزال يحمله بين ضلوعه، ينتشي مع نبض الموسيقى الذي يتكامل والسفن التي تجاور النوافذ حول دار الأوبرا، فتجعل المتلقي بين رحيلين يتهادى فرحا منتعشا.
الحفل الذي أقامته الفنانة اللبنانية غادة ضاهر علماوي في القاعة ( أوتزون رووم) إحدى قاعات الأوبرا هاوس في سدني، وحمل عنوان " أمسية " جاء نسخة مصغرة من وطن، وحلم عربي يراه أي عربي أصيل أملا في زمن يعيشه مرتبكا في كل حواشيه، وثوانيه، وغده، حيث استطاعت الفرقة العربية الأندلسية بقيادة رئيستها، ومدربتها، ومغنيتها الفنانة غادة ضاهر علماوي أن تؤلف بين القلوب المتواجدة بما قدمته من عذاب الألحان والأنغام ضمن توافق بديع بين أفراد الفرقة التي تلفت النظر بما يسري بين أعضائها من الانسجام، والتوافق، والفرح، والحرص الكبير على حفظ كلمات لقصائد وأغان عربية داراها الزمان، لكنه لم يستطع أن يأتي عليها، ولا أن يطويها بين صفحانه، إذ سرعان ما استطاعت الألحان والكلمات أن تستدر كل شيء جميل مركوم في زوايا الذاكرة، والمشاعر البشرية، التي تحتفظ بالنفيس، فانتشت القاعة بالتصفيق، والتفاعل، وكانت الأعناق كلها مشدوهة بما تسمع وتحس إن بالألحان، وإن بالصوت الرقيق من الفنانة غادة الذي كان يفيض أنوثة، وينسكب سلافا صافيا في المكان، رافقته حيوية لافتة منها، وإصرار على أن تصل إلى الكمال فيما تقدم، وتجهد عليه طوال عام ليكون ثمرة قطاف ليوم محدد من كل عام.
أما الكورال الجميل الذي كان يصدح في المكان فقد كان بتنوعه بين العرب، والترك، والصرب، والإيطاليين، والتفاوت في أعمار مغنيه، وتأكيد الحضور للكبار في السن، يصر على القول: إن الحياة لا تتوقف عند عمر معين، وأن الحياة تحب الفرحين والمقبلين عبر إضافة أسبغت شفافية غمرت الحاضرين، وشدهتم ساعات إلى ما يسمعون دون أن يرف لهم جفن، بل إنهم أخذوا يطالبون بالمزيد، وتلك سمة مميزة لأستراليا التي تجمع على أرضها خليطا متكاملا في الانتماء الديني، والعرقي، يضاف إليه احتفاء ملحوظ بالمسنين في إفساح المجالات لهم لممارسة ما يحبون من الأنشطة.
ومما حرصت عليه الفنانة غادة بذكاء واضح تعطيرها أمسيتها الفنية بصوت يعبق بالأصالة، والشذا والألق الساطع في استضافتها للفنان والكاتب والإعلامي والشاعر اللبناني المميز غسان علم الدين، والذي فرد صوته على القاعة سحر القوة المصحوبة بالجمال والتمكن من الأداء، وتسيّد المسرح، فانتقل بالحضور إلى عصر ازدهار الثقافة العربية، والعالمية التي كان الغناء والموسيقى إحدى تجلياتهما من خلال أغنيتين للموسيقار محمد عبد الوهاب: " قولي عملك إيه قلبي "، ورائعة الأخطل الصغير: " جفنه علّم الغزل" التي بها، وعندها افتتح محمد عبد الوهاب عصر الحداثة الغنائية العربية الثاني، فدوت القاعة بالتصفيق، والتقدير، فكانت هناك لمسة خاصة تمارس دورها في تحريك القلوب، والأشجان سبقتها منه كلمة تقدير واحترام للعمل الجاد الذي يقدم، ولمن يرعونه، فكان في ذلك المبدع الواثق الذي يقدر قيمة ما يهبه المبدعون للساحات الثقافية، فلا يقصر في مدحه، وإعطائه حقه.
ولقد تنوعت الأغاني التي قدمتها الفنانة غادة وفرقتها في الأمسية ما بين التراث اللبناني، والسوري والجزائري، والمصري، والعراقي، والموشحات الأندلسية، فكانت البداية تحية إلى الموسيقار والمطرب الكبير الراحل ملحم بركات، وختمت بأغنية " أنا كل ما قول التوبة للراحل الكبير عبد الحليم حافظ"، ولكنها لم تكن الأخيرة لا سيما أن الشاميات كانت سيدة المكان والوجع السوري الذي كان له نصيب من الفرح في هذه الأمسية الرائعة حيث غنى الكورال القدود الحلبية، ويا مال الشام، كانت قبله لفتة إنسانية الوقع من رئيسة الفرقة ومغنيتها، حين حرصت في كلمات راقية أن تعبر عن ألمها على ما يجري في سورية، وتتمنى أن تزول الغمة قريبا فتعود إلى الشام لياليها، ومساءاتها المعهودة.
أمسية يشهد لها أنها كانت حلم ليلة صيف سيظل المحيط، ونوارسه، ودار الأوبرا هاوس يتغنون بها، بينما سيحملها عشاق الأصالة العربية إلى مهاجعهم معطفا ثرا بما يغفو فيه من حنين العربي الذي لا يعرف له حدّ.