أسابيع قليلة تفصلني عن الذكرى الثانية لزواجي، وأعتقد أنه لن يكل هؤلاء الفضوليون عن السؤال المعهود: "مفيش حاجة جاية في السكة؟"، الذي لم يوقفوه أساساً طوال هذين العامين.
بعد إرضاء فضول الآخرين بكلمة: "لا"، وسماع تلك الأسطوانة التالية لجوابي، أود أن أسأل: "وليه ييجي حاجة في السكة؟"، حقاً، لماذا آتي بصغير إلى هذا العالم الذي لم نعُد نطيقه، أو ربما هو الذي لم يعُد يطيقنا.
لماذا آتي بصغير أعجز عن الرد عليه عندما يكبر ويسألني ساعة حزنٍ: "ليه جبتيني للدنيا دي؟"، سؤال الفضوليين سهل الإجابة عنه، وإن كانت على مضض، أما سؤال الصغير حينها فلن يكون كذلك.
هل أقول له وقتها إنني جئت بك يا عزيزي لتذوق من المرار الذي ذاقه والداك في هذا العالم، أم أقول له إنني جئت بك حتى لا يسألني أحدهم مرةً ثانية -واقعياً ربما تكون الألف!- عن كتكوتٍ صغير آتٍ في الطرق، أم لأن الجميع يأتون بصغارٍ إلى هذه الدنيا دون ضرورة لوجود إجابة عن سؤال كهذا.
هنا لا أتحدث مطلقاً عن الأمومة والأبوة، اللتين أعلم يقيناً أنهما أجمل المشاعر الصادقة بين البشر، أو عن مقدار البهجة والسعادة التي سيأتي بها صغيرٌ إلى عالمي الخاص، وإنما أتحدث عن السبب المنطقي الذي يدفع أيَّ زوجين لإنجاب صغير، بعيداً عن الكلام المحفوظ مثل "تكوين أسرة"، "لاستمرار النسل أو الحياة"، وهو ما يصلني بمعنى واحد، وهو "تكوين عزوة عيال للتباهي".
وبعيداً أيضاً عن أنني أعتبر نفسي كثيراً طفلة -واقعياً أنا بالعشرينيات- فأجد أنه من غير المعقول أن تربي طفلةٌ طفلاً/ة، فهل تستطيع تلك الطفلة الكبيرة التي حينما يسألها زوجها ماذا تريدين هدية؟ -تجيب دمية "عروسة" أو حلوى- أن تتحمل مسؤولية تربية وتعليم وتأمين الاعتناء بصغير؟!
خاصة أن الأمومة ليست تلك الصور الجميلة التي عانى ملتقطها لتظهر هذا الرضيع اللطيف مبتسماً ابتسامة أجمل من قطعة حلوى لذيذة؛ إذ لم نرَ عن الأمومة إلا حياة مثالية، تماماً كما أرتنا نفس الصور مثالية الحب والزواج، تلك الحياة الرومانسية الهادئة المستقرة اللطيفة الخالية من العقبات والأزمات.
لا أقصد التقليل من قدرهما أبداً، لكن الصور والحواديت الجميلة لم تخبرنا أن علينا التحمل والتضحية لبقاء تلك المشاعر الطيبة، أو أن هناك دموعاً مثلما هناك ضحكات وبسمات، أو أن كل الأيام لن تكون رغداً وفرحاً، وأننا لن نصادف المشاكل أبداً.
أعود لموضوعي الذي استثني فيه أيضاً الحديث عن كون إنجاب طفل مسؤولية عظيمة للغاية تحتاج قلباً حنوناً، وشخصاً مسؤولاً ذكياً عاقلاً حليماً صبوراً، حقق إنجازات جمة في مجال عمله ليكون قدوة لطفله، ومعه أيضاً من الأموال ما يكفي لتوفير كل سبل الراحة له، فهو لم يأتِ بطفلٍ يسيء تربيته، أو يهمله، أو يذيقه مراراً كما ذاق، فإن حدث ذلك، سيسألنا الفضوليون أنفسهم: "ليه جبتم عيل تشحططوه معاكم، مش قد الخلفة ما تخلّفوش!"، مثلاً!
وهل عليََّ أن أنجب طفلاً يحمل ذات الجنسية التي تجرعت الويلات بسببها، وكبرت روحي فوق عمرها ضعفين وثلاثة! وهل أنجب طفلاً عقب -أو أثناء ربما- مروري بأزمة لم يتخيلها امرؤ من قبل، غيَّرت مسار حياتي، وما زالت ترهق نفسي كل يوم.
فمن كان يدري أن يذيقه وطنه آلام السجن والحبس وقتل الأهل والأحباب، ثم يُلقي به بعيداً عن آخر الذكريات التي كانت تُلملم جراحه وتكفكف دموعه، بعيداً إلى أقسى الأرض، حيث يُعافر بالتعلم والعمل عشرات الساعات، والدراسة، والاختلاط بثقافات ولغات وأجناس جديدة، كل ذلك من أجل البقاء واقفاً لوقتٍ أكثر.
وعلى جانبٍ آخر، ماذا أقول لهذا الطفل عندما يكبر ويظل يسأل ويسأل، هل أجيبه بأننا أناسٌ حمقى أضعنا مئات الفرص لننقذ وطننا، وعلى الأقل أنفسنا من القتل والسجن والتعذيب والتهجير، أم أننا أصبحنا نُعاير، بل وأحياناً نتفاخر بمدى الظلم الذي وقع على كلِّ بلدٍ فينا، الذي بالطبع لم نزيله بعد. -
علمت أن إحدى الزميلات أنجبت أطفالاً في ظروف الله وحده أعلم بها، إذ تتخبطهم الأرض، وتلقي بهم هنا وهناك، ولا يدرون هل معهم قوت الشهر المقبل أم لا؟ هل سينتقلون مجدداً إلى بلدٍ آخر بعدما يطردهم ذلك البلد الذي يقطنونه كما فعل وطنهم؟ أعلم أن الرزق على الله، لكن هل أخذا بالأسباب بشكلٍ كافٍ قبل أن ينجبا طفلاً في تلك الظروف شديدة السواد؟
أحياناً أراني أمسك بهؤلاء من كتفهم وأرجّهم بشدة، وأجدني أقول: بارك الله لكم في صغيركم، لكن لماذا هذا الغباء؟! أنتم لا تضمنون يومكم أصلاً قبل غدكم، لماذا تأتون بطفل يتجرع مراراتٍ معكم؟! وربما أسرح بخيالي أكثر وأراني لطمتهم كفاً قوياً على وجوههم كي يفيقوا.
لا أقول ليس علينا إنجاب الأطفال، لكن هل حضرنا إجاباتٍ منطقية شافية لأسئلة الصغار، أو سرداً منمقاً لإخبارهم بقصة حياتنا البائسة تلك، وكيف أننا كنا ناجحين بجدارة في الفشل؟ وهل نحن على استعدادٍ نفسي وتربوي وروحي وعقلي ومادي في الوقت الآني لأن ننجب أطفالاً؟
وهل نكون في كامل قوانا العقلية حين نقرر أن نمنحهم نفس الهدية العظيمة في أن يملكوا نفس هذا الباسبور الأخضر الذي لا قيمة له ولا لهم حين يحملونه؟ وهل وهل وهل؟.. علينا إعداد إجابات منطقية عن كل تلك الأسئلة، أو لا نحضر جيلاً نشوهه بأيدينا -كما صرنا مشوهين- إلى هذا العالم، فيكفيه مَن به.