تفاجأت منذ أيام بصغيرتي ذات التسعة أعوام، عندما أتت إليَّ وهي ترتدي الحجاب، وسألتني عن رأيي في طريقة حجابها، وعندما استفسرت عن السبب، علمت أنها أرادت التشبه بشابة محجبة ناجحة في أحد المجالات، ولها تأثير مهم في وسائل التواصل الاجتماعي.
وبين مشاعر الاستياء من عبثها بأغراضي الشخصية، وسعادتي بمظهرها وتشبهها بتلك الشابة، أدركت الأمر فجأة.
"لقد أصبح لصغيراتنا قدوات محجبات معاصرات"
قدوات جمعن بين التدين والمحافظة على فرائض دينهن، وبين النجاح في أعمال إعلامية أو فكرية أو علمية، شابات يافعات متواجدات في مختلف الاختصاصات الراقية، مفعمات بالحياة، يطمحن ويعملن لمستقبل أفضل، يحملن رسالة، ويصممن على إحداث فرق وترك بصمة، ويتلألأن بذلك في سماء الإسلام التي أصبحت بحاجة لجهود كل فرد منا لاستعادة بريقها.
قد يستغرب البعض من هذا الطرح، ولكن نظراً لما كان عليه الحال قبل عشرين إلى ثلاثين سنة، من غياب أو تغييب تام للمحجبات في الأوساط الإعلامية بشكل خاص، وفي الحياة العامة بشكل أكبر، سيعلم عن ماذا أتحدث!
لا أنكر بالطبع وجود نماذج من السيدات المحجبات الناجحات، من أمهات وقريبات أو معلمات.. واللاتي نُكِنّ لهن كل التقدير والاحترام، ونؤمن بقدسية ما قدمنه، ولا أقصد بالطبع إنكار أهمية قدواتنا من صحابيات وتابعات.. ولكن ما أقصده هو ندرة وجود نماذج معاصرات من السيدات المحجبات، المؤثرات على مستوى الدوائر الكبرى في المجتمع، من إعلاميات وعالمات ومفكرات وفي مختلف المجالات الأخرى، نماذج حية موجودة أمام أعيننا، تثبت أن ارتداء الحجاب لم ولن يشكل عائقاً أمام تحقيق أحلامهن، بل ربما زاد إصرارهن للوصول إليها.
ومن جهة، فإن وجود مثل تلك النماذج عامل ضروري وهام في حسم الصراع النفسي الذي تمر به كل فتاة عند اتخاذ تلك الخطوة الهامة بارتداء الحجاب، ومع أن التحدث عن ذلك الصراع المرهق هو أشبه بالمحظورات في مجتمعاتنا، ومستنكر من قبل الكثيرين، إلا أن ذلك لا ينفي وجوده بحال.
فرغم الإيقان التام بالحجاب كفريضة إسلامية، إلا أن الفتاة، وخاصة في الأعمار الصغيرة نسبياً، لا بد أن تمر بتلك اللحظات العصيبة من صراع بين الرغبة في طاعة أوامر الله وبين الرغبات الإنسانية (الأنثوية)، من حب إظهار الجمال، وما يتبع ذلك من الرغبة في ارتداء نمط معين من الثياب المتماشية مع "الموضة" السائدة، وخاصة مع ضغط الغزو الإعلامي الفاحش، ومقاييسه المادية التي وضعت المرأة في إطار "جمالي" محدد لا يتعدى شكلها الخارجي.
ومع إيماننا بضرورة زرع القيم الإسلامية وحب الفرائض الشرعية في صغيراتنا وتربيتهن على ذلك؛ إلا أنه لا يمكننا إلا الإقرار بقوة تأثير وجود شابات محجبات ناجحات معاصرات، يجمعن بين المحافظة على دينهن، وبين الحداثة (بمعناها الإيجابي)، وسعة الأدوار والمجالات التي يقتحمنها بفكرهن وعلمهن وعملهن، فتأثير تلك السيدات لا يتوقف عند تغيير الصورة النمطية عن المرأة المحجبة ضمن المجتمع الإسلامي أو خارجه، وخاصة في عصرنا "عصر العولمة"، وإنما يتعداه للتأثير على أجيال قادمة من الشابات والصغيرات اللاتي يتطلعن بشغف لنماذج يتشبهن بها، ويسرن على خطاها.
قبل ما يقارب السنوات العشر حضرت مناسبة في دمشق برعاية إحدى الجهات الغربية، وكان عدد السيدات المحجبات لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، أو لنقُل اليدين الاثنتين حتى لا أبالغ، إن قُمتُ بِعَدّ نفسي معهن طبعاً.. ومن ضمن المتحدثين اعتلت المنصة رئيسة إحدى الجمعيات الخيرية، وكانت سيدة دمشقية محجبة، تحدثت تلك السيدة بثقة تامة أمام ذلك الجمع الذي زاد عن 300 شخص من مختلف الجنسيات، معظمهم من الشخصيات الاعتبارية الهامة.
ما زالت تلك الحادثة ماثلة أمامي، أذكر أنني عندما عدت للمنزل في وقتها، وقفت أمام المرآة طويلاً، لم يكن ما ينعكس عن تلك المرآة صورتي الشكلية، وإنما كان عدداً لا نهائياً من الأفكار، ومحادثة طويلة مع النفس، انتهت بقولي: "نعم.. أنا أيضا أستطيع".
وددت لو يصل هذا الكلام لكل شابة محجبة متألقة، أو لأخرى تعمل بجهد لتكون كذلك، فهو كلام من القلب إلى تلك القلوب الحالمة والنفوس التواقة للمجد.. فلتقُم كل واحدة بإهدائه لمن ترى فيها ما كتبت، علَّه يكون تعبيراً عن تقديرنا لهن.
إنه واجب علينا أن نبادر تلك النماذج بكل الإعجاب والتشجيع، وأن نأخذ بأيدي اللواتي لم يلحقن بهن ليفعلن، ونحن هنا لا نريد تذكيرهن بحجم المسؤولية التي وقعت على عاتقهن؛ لكون ألوف العيون الصغيرة الواعدة ترنو إليهن، وتريد التشبه بهن، وإنما نريد أن نقول لهن امضين في طريقكن وتألقن أكثر.