يشير العديد من الأطباء إلى أن زيادة الأعراض وشدتها عند مرضى الاكتئاب، تظهر جليا في فصل الشتاء ولهذا انشغل متخصصون في جميع المجالات الطبية والعلمية، بمحاولة لوضع استراتيجيات لترويض مظاهر القتامة في هذا الفصل البارد، والعمل على دعم المرضى النفسيين بشكل مضاعف لتمكينهم من عبور هذه الأشهر بسلام وبأقل الخسائر.
لكن، تبيّن أن معظم هذه الفرضيات كانت غير دقيقة، بحسب دراسة حديثة أشارت إلى أن فصل الشتاء غير مسؤول بالضرورة عن جملة من المشاعر السلبية، التي ترافق عادة البرد والظلمة واللون الرمادي. وأكثر من ذلك، فإن أغلب الناس يتعاملون بصورة جيدة مع هذا الفصل القاسي بل ومنهم من يستمتع بالطقس البارد والسكون الذي يعتري مظاهره.
وأشارت كريستين جاريت؛ وهي كاتبة أميركية متخصصة في الأبحاث العلمية، إلى أنه لا يوجد دليل واضح وصريح حتى اليوم على أن أعراض الاكتئاب تميل إلى أن تكون أكثر حدة في فصل الشتاء، أو أي فصل آخر من فصول السنة، في تأكيد على عدم وجود التأثير الموسمي عموما في الإصابة أو زيادة أعراض الأمراض النفسية، إضافة إلى أن التفاوت في التعرّض لأشعة الشمس في ما يتعلق بالمساحة التي تغطيها يوميا والزمن الذي تستغرقه في ذلك، لا علاقة له بزيادة أعراض الاكتئاب مع اختلاف الخارطة الجغرافية للمناطق في العالم.
وترى سامانتا بوردمان؛ أستاذة أميركية في الطب النفسي في كلية وايل كورنيل الطبية، أن الأبحاث القديمة كانت تؤكد على أن دماغ الإنسان يعاني من بطء في الاستجابة للمؤثرات الخارجية أثناء فصل الشتاء، في حين أن الواقع يشير إلى أن بعض وظائف الدماغ تتعزز بصورة واضحة في هذا الفصل بالذات!
وتقول بوردمان “خلال سنوات طويلة من تعاملي مع مرضى يعانون من الحزن أو بعض الاضطرابات العاطفية التي أرجعتها إلى أسباب تتعلق بالطقس وموسم الشتاء عموما، كنت أراهن في تشخيصي على أن مظاهر البرد والسكون والألوان الرمادية التي يعكسها هذا الموسم، هي المسؤولة بالدرجة الأولى عن هذه الأعراض، في حين أهملت ظروف وتفاصيل حياة المرض والعوامل الاجتماعية والأسرية التي من المؤكد أنها تترك تأثيرها الواضح على مزاجه وانخفاض مستوى الطاقة لديه”.
وتضيف بوردان “أعتقد أن الاضطرابات العاطفية الموسمية ما هي إلا نظرية شعبية راسخة، لا تمتّ للواقع بصلة كبيرة، والأكثر من ذلك، أرى أن هناك جانبا فضيا جميلا لفصل الشتاء!”.
ومن جانب آخر، فإن بعض الأكاديميين والمتخصصين حول العالم، مازالوا يؤمنون بوجود “الاضطرابات العاطفية الموسمية”، ويطلق عليها بعضهم “اكتئاب الشتاء” وغيرها من المسميات التي تشير إلى أعراض تتعلق بالمشاعر القاتمة مثل الحزن، اليأس، الاكتئاب والقلق، والتي تؤثر سلبا في مستوى الإنتاجية في العمل والدراسة وتترك أثرها أيضا على العلاقات الاجتماعية فتصيبها بالفتور، ثم تستمر طوال أشهر الشتاء التي تكون طويلة في بعض مناطق العالم، لتختفي مباشرة مع إشراقة أول صباح ربيعي، حيث تتوسط الشمس السماء الصافية وتنشر أشعتها الدافئة الزاهية، لتطرد ما تبقى من رماد الشتاء.
وترى الدكتورة ديبورا سيراني؛ أستاذ مساعد في علم النفس جامعة أدلفي ومؤلفة كتاب “الحياة مع الاكتئاب”، أن في هذا الوقت من السنة تحديدا، وتعني ديسمبر، فإن النهار يكون على أقصره بينما تمتد ساعات الليل إلى ما لا نهاية وكأنها أبدية، حيث تنتاب عددا كبيرا من الناس مشاعر وأعراض واضطرابات نفسية ووجدانية مشتركة؛ فتنخفض مستويات الطاقة لديهم ويشعرون بالملل، وبفتور في علاقاتهم بالآخرين، وبالكسل، وبحزن غير معروف المصدر وربما باكتئاب شديد.
ويذكر أن هذا النوع من الاكتئاب، إذا صح التعبير، يؤثر في الملايين من البشر حول العالم خاصة النساء والأطفال، وكان التعريف بهذا العارض النفسي قد تمت الإشارة إليه قبل ما يقارب الـ150 عاما، إلا أنه لم يشخص باعتباره اضطرابا نفسيا إلا في بداية الثمانينات من القرن الماضي، وتشتمل أهم أعراضه على الحزن، الانسحاب من الأنشطة الاجتماعية، عدم القدرة على التركيز والتقوقع على الذات، كما أن الشخص المصاب بهذا النوع من الاكتئاب يميل إلى زيادة عدد ساعات نومه بمعدل ساعتين ونصف الساعة في اليوم الواحد، مقارنة بساعات نومه في فصل الصيف.
ويعتقد بعض المتخصصين أن هؤلاء الأشخاص يميلون إلى قضاء هذا الوقت الرمادي من السنة، محدقين إلى شاشة التلفزيون ومتابعة سلسلة طويلة من البرامج الترفيهية والمسلسلات، مع تناول كمية كبيرة من الحلويات والنشويات، على أمل انقضاء ليالي الشتاء الطويلة، لكن هناك الكثير من الخيارات الأخرى التي تعمل على تحسين أمزجتنا، من دون الحاجة إلى إضافة المزيد من الكيلوغرامات إلى أوزاننا، وأهمها تحديد ما إذا كانت هذه مجرد تدنّ طارئ للحالة المزاجية أم هي جزء من الاضطرابات العاطفية الموسمية الحادة، فإذا كان الخيار الثاني هو الأرجح فتتوجب مراجعة متخصص في العلاج النفسي السلوكي لتشخيص مستوى الاضطراب وأسبابه، وبالتالي تحديد العلاج المناسب له.
أما إذا كانت الأعراض مجرد تغيير في المزاج لأسباب شخصية فقد لا تتعلق بالضرورة بموسم معين في السنة، فإن القيام ببعض النشاطات الاجتماعية مع الأهل والأصدقاء وتلبية الدعوات ومحاولة قضاء أوقات أكثر خارج المنزل، يمكن أن تمثل مخرجا من حالة الكسل والسبات، وربما استغلال بعض أوقات الظهيرة لممارسة رياضة المشي والاستمتاع بأشعة الشمس حتى إذا كان ذلك لمدة قليلة ونادرة، كما ينصح بإنهاء بعض الأعمال المتراكمة حتى إلى وقت قريب من بدء موسم الأعياد والإجازات.