وما دمنا بصدد تكوين العادات الصحيحة والمستحبة لدى أَولادنا ، فلا بد من العودة إلى العادات التي تتكون عندهم في مراحل عمرهم الأُولى . نتيجة مواقف إيجابية أَو غير إيجابية من الأهل ، يلقونها للطفل عن جهل أو عن اعتياد أَو عن إِسراف في المحبة ، أو تطرف في السلطة ، وقد نوهنا في أَحاديث متعددة سابقة ، بأن السنوات الثلاث الأولى من عمر الطفل هي سنوات تكوين أُسس بنيان شخصيته ، وبالتالي أسس تشكيل سلوكه الحياتي القادم .. فهي مرحلة بنائية لمراحل قادمة ، ومنها كانت وصيتنا دائماً بضرورة إعطائها الأهمية اللازمة من العناية والرعاية والحذر والانتباه والفهم العميق لمتطلبات هذه المرحلة من كافة النواحي الحياتية وخصوصاً التربوية والصحية والنفسية ... فلا بد وأَن نتعامل معها بوعي ومرونة وانتباه تام لأَتفه التصرفات التي قد يأتيها الطفل ، ليجري صقلها أَو تقويمها ، لتأخذ مكانها في الطريق السويِّ قبل أَن يستفحل أَمرها وتصبح سلوكاً يصعب تقويمه وحتى تعديله ..... وقد ثبت بأَن سلوكيات الطفل تتطور بناء على عاملين ، العامل الأَول هو العامل الشخصي أَو الفطري ، والعامل الثاني هو عامل التربية المرتكز على أّداء الأَهل وتصرفاتهم مع الطفل ، وهو عامل مكتسب كما ذكرنا سابقا ً...
والحقيقة هو أَن العامل الثاني هو الأَهم بالنسبة لمدى احتمال الطفل للمشاكل مع محيطه ، بدءاً من الشهر السابع والنصف من عمره ، وهو نقطة الانطلاق الأَساسية في حياة الطفل ونموه الاجتماعي ، وتكون المرحلة الأَساسية في حياة الطفل الاجتماعية في سن الأَربعة عشر شهراً .
وفي هذه الفترة من المفروض أَنه بدأَ يمشي ويتحرك ، وتبدأ مع المشي والحركة فكرة اكتشاف العالم من حوله ، فيلمس هذه ، ويداعب هذه ، ويزجر عن موقف ، ويشجع على موقف ، وفي الغالب يكون التنبيه والزجر هو الغالب ، ومن ثم يبدأُ بالكلام ، ويباشر تفاعله مع مجتمعه بالكلمة والحركة .. وبعدها يبدأ يكتسب من والديه بعض عاداتهما وطباعهما . فقد يكتسب بعض العادات السلبية مثل العض والضرب والركل ، وهذا ما نجده لدى كثير من الأَطفال نتيجة ميل الأَهل للعنف ، سواء بالكلمة أَو بالتصرف .
وفي هذه السن أَيضاً نلاحظ أَن بكاء الطفل أَو تبرمه يأخذ شكل الابتزاز أَحياناً وحسب ردة فعل الأَهل تجاهه ، فإِذا غالوا في تلبية طلباته وفي أَي وقت ، تخلصاً من بكائِه أو تبرمه ، نما على هذه الحال وغدا نزقاً يعجز المرء عن التعايش معه .
وحري بنا التحدث عن الطفل ابن السنتين من العمر ، حيث يبدأ بمعرفة الخطأ من الصواب ، وفي هذه المرحلة إما أن يصبح اجتماعياً أو بعيداً عن الآخرين وتنطبع حياته بهذا الطابع الأساسي ، ومشكلات ابن السنتين لا تنحصر فقط في التعامل مع غيره من الأَطفال ، بل إن نوبات من الغضب قد تنتابه لأَسباب واهية ، خصوصاً تلك التي تأتيه بدافع الغيرة ، إِذا رزق شقيق أَو أُخت ، حيث يغدو منافساً له على محبة والديه اللذين ينصرفان للاهتمام بهذا القادم ، الذي يشاركه المحبة وغرفة النوم وممتلكاته الشخصية ، فيحسب أَنهما يفضلانه عليه .
وجدير بالانتباه أَن تطور سلوكيات الطفل في السنوات الثلاث الأولى من عمره ، إِذا لم يكن كافياً فإِن الوضع سيزداد سوءاً بالنسبة للأَهل وللمربين ، ولا نقصد بهذا الكلام بث اليأس في نفوس الأَهل ، بقدر ما نسعى لتشخيص السلبيات في تربية الأَطفال سعياً وراء تجنب الوقوع فيها .
ولكن ماذا لو وقعت المشاكل التي نحذر منها فعلاً ، وسارت الأُمور بعكس ما يشتهي الوالدان ؟.. ماذا لو واجه الطفل مصاعب في نموه الاجتماعي وتطور سلوكياته . الواقع أََن حقلاً واسعاً من الأبحاث أتانا بنتيجتين هامتين .
1 – النتيجة الأُولى : تتعلق بأَن ثمة تأثيرات حيوية تطبع حياة الطفل بصورة " أَبدية " وطوال حياته ، وهي مبنية على تجارب الأَشهر الأُولى من العمر ، ولعله من المكروه أَن تجري الأُمور على عكس ما يشتهي الأَهل في هذه المرحلة ...
وضمن هذا الإطار نجد أَن البحث الأَكثر تعبيراً عن القصد من هذا الكلام يتجسد في دراسات فقدان الأُمومة التي أُجريت خلال الأَربعينات من القرن الماضي ، والتي قام بها المحلل والباحث النفسي " رينيه سبيتز Rene Spits " الذي درس سلوك الأَطفال وتطورها في دور الحضانة والإيواء ، وهم أَطفال فقدوا أَهلهم ولم يحالفهم الحظ لتكوين علاقات حب في السنين الأُولى من العمر ، وذلك منذ بداية القرن أَي منذ العام 1900 م .
ففي تلك الفترة لم يكن معظم الأَيتام من الأَطفال يحظون بمتعة الحياة حتى بلوغهم السنتين من العمر .. ولكن ، مع تحسين العناية الصحية في دور الأَيتام الأوربية بعد ذلك . أَخذت أَعمار الأَطفال تطول ، ولكن حالتهم الصحية لم يشملها هذا التحسن ، فكان معظمهم يعاني من ( الشلل النفسي ) ، ولم يكن بإمكانهم أَن يعيشوا حياة طبيعية بعد بلوغهم سن الرشد .
2 – وأَدت الدراسات اللاحقة التي قام بها الخبراء إلى وضع دراسات معمقة لمنظمة الصحة العالمية ، ومنهم " جون باولبي John Bawlby " الإنكليزي ، الذي استشهد بمئات الأبحاث حول نتائج فشل نشوءِ علاقة حب مبكرة ، في حياة الطفل مع أَحد والديه أَو أَحد المربين ، أَو قطع مثل هذه العلاقة ، ذلك أَن الأَطفال يكونون سريعي العطب نفسياً في السنوات الثلاث الأُولى من عمرهم ، وهي الفكرة التي أكدها بعد ذلك الأخصائيون ، حيث وصفوا هذه المرحلة " بالفترة الانتقالية " للتطور والنمو العاطفي والاجتماعي .
قبيل إنشاء المحكمة العليا في " ميتشيغن " حدث انتهاك لهذه القاعدة الهامة ، إذ نشأت طفلة مع عائلة بالتبني منذ يوم ولادتها وحتى العام الثاني من عمرها ، ثم أُعيدت إلى أحضان أُمها التي تم العثور على عنوانها لاحقاً . فمن وجهة النظر القانونية اعتبرت المسأَلة محلولة ، ولكنها على الصعيد التربوي والإنساني تعتبر مأساة حقيقية بحق جميع الأطراف ، وللأسف فإن مثل هذه الحوادث تحصل كل يوم .
ومن المسائِل الهامة المطروحة على بساط البحث ، مسأَلة لجوء كثير من الأَهل لوضع الطفل في الحضَانة في الأَشهر الأُولى من عمره وحتى الثالثة ، وبالتالي فإِن ( العناية البديلة ) هذه بالطفل تحرم الأم أو الوالدين فرصة توطيد علاقة متينة معه ، وحتى لو لم تكن نية الأُم تهدف إلى حرمان الطفل عاطفياً من أُمومتها .
وعلى هذا فعلى الأم التفكير ملياً قبل اللجوء إلى الحضانة للعناية بطفلها في هذه المرحلة ، وأَن تكون الأَسباب فعلاً ملحة للإقدام على مثل هذه الخطوة ، فالطفل لا يفقد علاقته الحميمة بوالديه وحسب بل إنه يعيش حياة جماعية يتعرض خلالها لأَمراض صحية معدية كالزكام وأمراض أُخرى تبلغ نسبتها في الحضانة أَربعة أضعاف نسبة إصابته بها في المنزل ، كما قد يكسب ميولاً من الأَطفال الآخرين من ناحية السلوكيات قد لا ترغب الأُم أن يتعلمها طفلها ، كالنزق والبكاء المتواصل مثلاً ....
ثمة موضوع في غاية الأَهمية يهمني أَن أُشير إليه ، فقد يشكك البعض في إمكانيات الطفل ويتساءَلون : ماذا يستطيع الطفل الرضيع أَن يفعل ، وما هو مجال إدراكه ؟ إن هذا السؤال لم يطرح إلا منذ فترة قريبة ، فقد كان يعتقد أَن الطفل المولود حديثاً عاجز عن كل شيء ، وبالطبع فهو لا يدرك أَي شيء . إلا أن الدراسات التي أُجريت في السنوات الأَخيرة تشهد بأن المولود الجديد قادر على فعل أَشياء كثيرة تتجاوز مقدرته على الأَكل والنوم ، التي كان يعتقد سابقاً أنها نهاية حدود إِمكانياته ... وباستخدام طريقة بحث تجريبية دقيقة تم نقض الفرضية المضللة التي تقول بأَن مخ الطفل المولود حديثاً غير قادر على ممارسة النشاط العقلي ، وقد بينت هذه الأبحاث أَن الطفل الذي أَتم الأسابيع الثلاثة من عمره يتمتع بملكة انتقاء التأثيرات الصوتية ، لهذا فهو يفضل سماع صوت والدته ، وإذا حاولت إيهامه بأنها تتحدث بصوت غير صوتها ، فإن الحيلة لا تنطوي عليه ... وقام الباحثون بعرض وجوه غريبة عليه مرفقة صوت الأُم الحقيقي ، وقاموا بعرض وجه الأم الحقيقي مع صوت غريب ، وفي كلتا الحالتين كان الرضيع يبدي انزعاجه . ويشعر بأن أُموراً غير طبيعية تحدث أمامه ، إن هذه التجارب بالإِضافة إلى جملة بحوث تجريبية أُخرى تشهد بأن مخ الطفل المولود حديثاً قادر ليس فقط على تحليل الظواهر التي يتلقاها ، وإنما يملك إمكانية ربط الظواهر ببعضها ، يربط الصوت بصورة الوه الذي يعرفه .
وقد أَوضحت التجارب أَيضاً أَن أولى " العلميات الذهنية للطفل ، تترافق بحركات انفعالية ن شعور الراحة والهدوء والسرور ، إذا كانت الأُمور على ما يرام (عندما الأم تكون قريبة وتتكلم بصوتها الحقيقي ) ، أَو حالة الاضطراب والقلق وعدم السرور إذا حدث وأصبحت الأُم غير شبيهة بنفسها ، عندما يأخذ الطفل بالتعبير عن قلقه وعدم رضاه بالبكاء .... وقد ثبت بأن الطفل منذ لحظة ولادته يصبح كائناً اجتماعياً ، لأن مخه يحتوي على صفات وراثية تحدد الخصائص التي تميز سلوكه عن السلوك الغريزي للحيوان . ففي أَول ردود الفعل العاطفية للطفل تظهر أٌولى حاجاته الروحية ، وهي حاجته إلى المعاشرة والتأمل والتفكير ....
نستنتج من هذا كله أَن الطفل في عمر أربعة عشر شهراً أَو أَقل يمكن أَن يتأَثر ويكتسب عادات لفظية وحركية .