في العام 1930 أنشأت وزارة المعارف العمومية في مصر، أول معهد للتمثيل بناء على اقتراح زكي طليمات، لكنه لم يستمر سوى عام واحد قبل أن تغلقه الحكومة لأنه "يخالف التقاليد"، وذلك لقبوله الفتيات لدراسة التمثيل فيه. وفي العام 2005، نهضت فتاة متوجسة من مقعدها -ترتدي الحجاب مثل أغلب زميلاتها الجالسات في المدرج بمعزل عن باقي الطلبة من الذكور- لتوجه سؤالًا إلى الناقد السينمائي سمير فريد، بعدما ألقى محاضرة عن السينما في كلية السياسة والاقتصاد في جامعة القاهرة. ربما لم تكن الفتاة تعرف زكي طليمات، وربما لا تعرف شيئًا عن تاريخ السينما أو التمثيل في مصر، وربما أيضًا لم تكن متوجسة، بل أرادات أن تؤكد –ببساطة- أن شيئًا لم يتغير طوال 75 سنة من السينما في مصر، فسألت سمير فريد "هل السينما حرام أم حلال"؟
بالطبع جرت أمور كثيرة في السينما حول وضع المرأة في مصر والعالم العربي، لكن كتاب الناقد السينمائي المصري سمير فريد "أفلام المخرجات في السينما العربية"(*) يكشف كما لو أن ذلك التغيير يسير في دوائر؛ يلف حول نفسه، حيث يتعرض خلاله إلى المنجز الإبداعي للمرأة العربية كمخرجة سينمائية، ويرصد للصورة التي بدت عليها في السينما العربية عمومًا منذ إنتاج أول فيلم روائي طويل في القاهرة وحتى وقتنا الحاضر.
ففي العام 1923 أخرج محمد بيومي –من أوائل السينمائين المصريين- فيلمه الروائي الأول عن قصة للمسرحي أمين عطالله، وهي قصة الموظف الذي تخدعه راقصة، وتسلبه أمواله، في ذلك الوقت كانت الدعوة إلى تحرير المرأة وتطوير وضعها في المجتمع قد وصلت إلى ذروتها بإنشاء الاتحاد النسائي المصري، وكان الرجل نفسه ثوريًا ومع ذلك كانت هذه صورة المرأة في أول أفلامه. ويُرجع سمير فريد ذلك التناقض إلى عدة أسباب، أولها "سيادة وجهة نظر الثقافة التقليدية الريفية في ما يتعلق بالمرأة، والتي تؤدي إلى تصور أي موقف خاص أو عام يتواجد فيه المرأة والرجل بوصفه موقفًا جنسيًا من نوع ما، توشك أن ترتكب فيه "خطيئة" مما يحيل كلاً من المرأة والرجل في ذهن الآخر إلى كتلة جنسية يجهلها ويخافها، وفي الوقت نفسه يشتهيها، وثاني هذه الأسباب يتعلق بالمفهوم السائد للدراما في ذلك الوقت، سواء في المسرح، أو في السينما، حيث الموقف الميلودرامي الذي يختار لحظة ذروة من لحظات الحياة: الميلاد – الزواج – الطلاق – الموت – النجاح - الفشل.. لينتهي إلى موعظة أخلاقية مجردة. فيما يتعلق الثالث بالرقابة التي فرضتها سلطات الاحتلال البريطاني على المسرح المصري في أعقاب حادث دنشواي عام 1906، والتي جعلت الفيلم المصري ينشأ في خوف من المصادرة، خاصة مع التكاليف المرتفعة للأفلام".
إذا جرّدنا تلك الأسباب التي أوردها فريد، سنجد أننا أمام عناصر ثلاثة رئيسية تتحكم في دور المرأة بالنسبة إلى صناعة السينما: "النظرة المجتمعية" و"المستوى الفني" و"الرقابة"، وهي العناصر التي لا يصح تمثيل المرأة مجتمعيًا وفنيًا إلا بتغييرها مجتمعة، وبشكل جذري.
من بين أكثر من 400 فيلم مصري أنتجت في الفترة من 1962 إلى 1972، كانت شخصيات النساء في الأفلام بالنسب المئوية التالية: (43.4% بلا مهنة واضحة، 22% ربة بيت أو زوجة أو مطلقة أو أرملة أو عانس، 20.5% نساء عاملات، 10.5% طالبات، 9.5% فنانات، 5.4% منحرفات) وأكثر هذه النسب دلالة هي نسبة النساء من دون مهنة واضحة، أي مجرد أنثى. ويؤكد سمير فريد: "أن هذه النسبة في كل الأفلام المصرية لم تقل عن 50%، وتصوير المرأة على أنها مجرد أنثى، هو ذروة التعبير عن النظرة الثقافية التقليدية الريفية إلى دور المرأة في المجتمع".
ويستشهد فريد بدراسة للباحثة إحسان سعيد عن "صورة المرأة المصرية في سينما التسعينات"، والتي درست فيها 31 فيلماً من 1990 إلى 2001، وتنتهي الدراسة إلى وجود قصور في طرح وتجسيد صورة المرأة وحصرها في نماذج متشابهة والهدف منها مداعبة غرائز الجمهور وإثارته، ووجود مغالاة في تجسيد العنف الذي تمارسه المرأة والعنف الذي يمارس ضدها. والأدوار المتصلة بدور المرأة في الحياة السياسية جاء معظمها سطحيًا وغير فعال ولا يتناسب مع دورها الجاد على المستوى الراقي. وأغفلت السينما في فترة التسعينيات قضايا المرأة الفلاحة والكادحة وركزت على المرأة العصرية، من دون التعرض للأبعاد الحقيقية في شخصيتها من الناحية الإنسانية والأدبية. كما لم تقدم السينما نموذجًا للمرأة القدوة التي يعول عليها في الصمود والقدرة على الارتقاء ومواجهة مشاكلها. غابت عن الأفلام التنبؤات المستقبلية للتطور المرجو في دور المرأة الاجتماعي والسياسي والثقافي، خصوصاً في ظل تأكيد نوازع التحرر والدراسات العلمية والإنسانية.
فيما يشير الناقد إلى أن صورة المرأة العربية في الأفلام الجزائرية هي أكثر الصور تقدمية على صعيد السينما العربية، ويقول إن السبب في ذلك ربما يرجع إلى الإرادة السياسية في دولة الجزائر التي أمّمت السينما بشكل كامل. لكن الإرادة السياسية، وإن رغبت في النهوض بفن السينما، فإن فعل التأميم في حد ذاته هو فعل رقابي، وهو ما تكشفه القصة التي يوردها الكاتب عن حادثة جرت له في العام 1975، حين ذهب "إلى بغداد مع يوسف شاهين بدعوة من وزير الإعلام آنذاك طارق عزيز، لمناقشة أوضاع السينما في العراق، والمساعدة في وضع تصور جديد لعلاقة الدولة بالسينما. وقد قمت مع المخرج الكبير بتفقد المعدات السينمائية والالتقاء مع العديد من السينمائيين، ثم التقينا مع الوزير قبل سفرنا، وكانت المهمة من دون تعاقد ولا أموال. سألني الوزير ما رأيك بعد ما شاهدت وسمعت. قلت: لديكم أحدث المعدات في العالم، ولديكم سينمائيون درسوا في معاهد شرقية وغربية، وليس كسوريا مثلاً حيث درس الجميع في موسكو. قال الوزير: إذن نملك المعدات، كما نملك المال، فماذا ينقص لتكون لدينا سينما عراقية؟ قلت من دون تردد: الحرية". فقد علم سمير فريد، خلال زيارته، بمنع العديد من السيناريوهات وإيقاف تصوير أحد الأفلام لمخرج عراقي مشهور بعد أسابيع من البدء في تنفيذه، كما شاهد عددًا من الأفلام القصيرة الممنوعة، وطوال ربع قرن لم يستطع الكتابة عن أي منها حماية لأصحابها.
الأمر نفسه يتضح في بُعده الاجتماعي من خلال التجربة الناصرية وما تلاها في مصر، حيث منحت "ثورة يوليو" العديد من الحقوق السياسية للمرأة، وقد برزت صورتها التقدمية للمرة الأولى في فيلم "صراع في الوادي"- إخراج يوسف شاهين 1954، وفي فيلم "الله معنا"، إخراج أحمد بدرخان في العام نفسه، إلا أن النزعة التقدمية سرعان ما اصطدمت بهيمنة التيارات المحافظة التي ساعد نظام السادات في تزكيتها، وكذلك هجرة المصريين للعمل في دول الخليج. ففي نهاية السبعينات، قدمت فاتن حمامة فيلم "ولا عزاء للسيدات"- إخراج بركات العام 1979، عن رواية للكاتبة كاتيا ثابت، حيث دافع عن حق المرأة المطلقة في الحياة الطبيعية بعد الطلاق. لكن، بينما تستطيع بطلة كاتيا ثابت في الرواية، ممارسة الجنس مع طارق، رئيس التحرير الذي أحبته، لتلقى مصرعها في النهاية، نجدها في الفيلم لا تمارس الجنس على الإطلاق، وربما بسبب ذلك لا تموت في النهاية، وإنما تصاب فقط.
وربما لو كان بركات قد التزم بما جاء في نص الرواية، لنال فيلمه مصير فيلم أسامة فوزي "بحب السيما" الذي عرض العام 2004، والذي يتناول في إطار قصته شخصية زوجة قبطية تعاني الحرمان الجنسي بسبب التطرف الديني لزوجها حتى انها تقيم علاقة جنسية مع رجل آخر. إذ منعت الرقابة الفيلم، وعادت وصرحت به بعد الحذف، ثم عادت وخففت من المحذوفات، لكن شخصيات ومؤسسات مدنية رفعت دعاوي قضائية طالبت فيها بمنع الفيلم.
ولا يمكن إغفال ذلك المناخ المصاحب لظهور المرأة على شاشة السينما، عند النظر إلى النسبة الضئيلة جدًا التي تستحوذ عليها المرأة كمخرجة، حيث ما زال عدد مُخرجات السينما العربيات، أقل من خمسة في المئة، بالنسبة إلى عدد الرجال من مخرجي الأفلام الروائية الطويلة. فكلما زاد حجم الصناعة، كلما زادت المخاوف من تعريضها للخسارة.
ففي عشرينيات وثلاثينات القرن الماضي، ظهرت أربع مُخرجات سينما في مصر، هم عزيزة أمير وفاطمة رشدي وبهيجة حافظ وأمينة محمد، كن كلهن من الممثلات، وكن جميعًا منتجات لأفلامهن. ويشير سمير فريد إلى أنه مع بداية الحرب العالمية الثانية، وطوال فترة الحرب وبعدها، تحولت صناعة السينما في مصر إلى صناعة كبيرة، وما إن تجاوزت مرحلة الهواية والمغامرة حتى ظهر الوجه الذكوري الكامن للمجتمع المصري، وتم طرد النساء من عالم الإخراج، واقتصرت أدوارهن على التمثيل والمونتاج والماكياج وتصميم الأزياء. وحتى نهاية العام 1981، لم تحاول أي امرأة إخراج فيلم روائي طويل، غير ماجدة التي أخرجت العام 1966 فيلم "من أحب". ولا تختلف صورة المرأة في السينما العربية غير المصرية، عنها في السينما العربية المصرية، بحسب فريد. وذلك بحكم التراث المشترك لجمهور السينما الناطقة بالعربية، ولا يختلف الوضع بالنسبة إلى عدد مخرجات الأفلام الروائية الطويلة. فحتى العام 1981، لم تظهر سوى مخرجتين لهذا النوع من الأفلام، هما سلمى بكار وناجية بن مبروك، وكلتاهما من تونس.
(*) صدر كتاب "أفلام المخرجات في السينما العربية" ضمن سلسلة "كتاب الهلال" عدد نوفمبر 2016، ويضم أربعة أبحاث عن صورة المرأة في السينما العربية وعن دورها كمخرجة، بالإضافة إلى مقالات كتبها المؤلف كناقد سينمائي على مدار 30 سنة (في الفترة من 1985 إلى 2015) عن نحو 40 فيلمًا لمخرجات عربيات.