اقتحام الطابو:
أثار موضوع "هروب" أو "تغييب" مجموعة من الفتيات بمناطق متفرقة من إقليم تنغير، جنوب شرق المغرب، لغطاً وجدلاً كبيرين جعلنا نحاول فهم بعض الثاوي خلف هذه الحالات التي وصفت بالظاهرة الخطيرة و"الدخيلة".
بداية، فهذه الظاهرة ليست جديدة، وليست خاصة بمنطقة دون أخرى، كما أنها ليست "دخيلة" ولا "خارجة"، فهي ظاهرة اجتماعية تعرفها وعرفتها كل المجتمعات عبر التاريخ، وكغيرها من الظواهر الإنسانية لا يمكن التعميم بشأنها، ولا يمكن إرجاعها إلى سبب محدد، فلكل حالة أسباب نزول معينة بين الاجتماعي والاقتصادي والنفسي.
تمكنا من الحصول على معطيات صادمة وتكاد تكون مفارقة لأغلب ما تداولته الشبكات الاجتماعية ومواقع إلكترونية حول ظاهرة اختفاء فتيات تنغير، والتي ربطتها بشكل مباشر أو غير مباشر بالانحراف الأخلاقي "الجنسي".
في هذا التحقيق سنضطر للسكوت عن بعض التفاصيل حماية للمعطيات الشخصية، وكي لا تتشابه الأحداث والمعطيات مع حالات مغايرة، فكل تشابه في التفاصيل فهو من محض الصدفة.
هاربات من "القهرة" متهمات بتلطيخ "الشرف"
بعد تتبعنا لبعض حالات "الهروب" أو "الاختفاء" أو "التغييب"، كانت صدمتنا عندما وجدنا أن أسباباً تكاد تكون "تافهة" وبسيطة وراء اضطرار مجمل "الهاربات" لمغادرة الكنف الأسري، لكن قهرية الوصم الاجتماعي لما بعد انتشار خبر "الاختفاء" يجعل المشكل يتطور ويتعقد بسبب العقلية الذكورية السائدة، كما وجدنا أنه في بعض الأحيان يكون "تغييب" أو "هروب" الفتاة عن بيت عائلتها "هروباً إيجابياً" كحالات الهروب من محاولات الاعتداء الجنسي من أحد المحارم، أو الهروب من "زواج قسري"، أو حالات اختباء فتيات عند أقارب أو أصدقاء بعد اكتشافهن حقائق حساسة كانت مخفية عنهن، كحالة إحدى "المختفيات" التي اكتشفت أنها "بنت بالتبني" فلجأت إلى عائلة إحدى صديقاتها هرباً من الحقيقة الصادمة.
إن عدم عودة فتاة إلى البيت لفترة يجعل الكل ينخرط في التأويل والتحليل وإطلاق الأوصاف والنعوت، التي غالباً ما تكون سلبية ضدها؛ حيث تتحرك آليات الوصم الاجتماعي مما يزيد في تعقيد المشكل.
كنا، وربما الكثيرون غيرنا، نعتقد أن مشاكل معقدة وكبرى وراء اختفاء هؤلاء "الهاربات"، لكن واقع الكثير منهن غير ذلك تماماً، كما أن هناك مَن رجح فرضية وجود مافيا تستقطب الفتيات للدعارة بحكم تقارب حالات هذه الاختفاءات زمنياً، فالكثير منا يحكم على الأمر منذ الوهلة الأولى بمقولة "ليس هناك دخان بدون نار".
إحدى اللائي استقصينا حالاتهن، مراهقة متمدرسة، غادرت منزل عائلتها هرباً من مشاهد العنف اليومي الذي يمارسه الأب على الأم، "لم أعُد قادرة على تحمل رؤية أمي تتعذب"، "تمنيت أن أعيش يوماً بعيداً عن ذلك"، هكذا عبرت عن قصتها في جمل، غادرت منزلها ذات صباح إلى بيت إحدى صديقاتها دون إخبار أحد، وظلت هناك لأيام قبل أن تعود.
حالة أخرى لـ"هاربة" من "تزويج قسري"، وأخرى لم توافق عائلتها على "علاقتها" مع أحد الشباب الذي وعدها بالزواج، فهي تحب شخصاً والعائلة تريد لها شخصاً آخر، وأخرى اختفت بعد أن اتهمها أقاربها بالفساد، لأنهم اكتشفوا لديها هاتفاً محمولاً تلقته هدية من زميلها، والأقارب "طبعاً" لم يتقبلوا الأمر ولم يتفهموه وواجهوها بالضرب والكلام الجارح والعنف المادي والمعنوي، فحزمت بعض ملابسها وخرجت نحو المجهول، وحالة أخرى "هربت" من كثرة الأعمال المنزلية وما سمته "أعمال السخرة" لزوجات الإخوة أو "الهروب" من "تمارا" و"القهرة" بين الحقول والجبال، أو أخرى "هربت" بعد أن عنفت داخل الأسرة بسبب سرقتها لـ500 درهم من أبيها.
لا أحد سيفهم مثلاً أن فتاة هربت؛ لأنها لم تعد تتقبل "بخل أبيها الغني"، وإحساسها بنوع من الظلم و"الحكرة" عندما تقارن "حالها" بحال بنات أسر فقيرة لكن يظهرن أفضل منها، ومن حديثها يستشف أن "البخل" هنا ليس فقط مادياً، بل هو عاطفي أيضاً، خاصة عندما تقول: "كم تمنيت أن يحضني أبي بحب ولو مرة واحدة في حياتي"، وربما هو حال العديد من الأبناء والبنات الذين يجدون الأب مشغولاً في توفير رغيف العيش ولا يهتم أو لا يعرف فضل قُبلة حب لأبنائه أو أهمية لمسة حنان.
مجمل الحالات التي توقفنا عندها تعود لفتيات تتراوح أعمارهن بين 15 و28 سنة، لمسنا أن أغلبها كان من الممكن إيجاد حلول لها بالحنان الأبوي وبالحوار الأسري الشفاف والواضح البعيد عن اللغة الموارية؛ حيث إن دراسات اجتماعية وسيكولوجية كشفت أن التمويه وتجنب الخطاب المباشر والجريء في الأحاديث الأسرية لا يحل مكامن الصراعات والمشاكل ويراكم عقداً اجتماعية ونفسية.
مثل هذه الحالات، التي يختلط فيها النفسي بالاجتماعي لا يمكن أن نتسرع بالحكم عليها على أنها "انحراف أخلاقي"، أو التسرع في إصدار التعميمات و"التيكيتات" الاجتماعية فهي مجرد اختلال في السلوكات يمكن علاجها بتوسيع فضاءات الحوار الأسري.
حين تقول الأسرة: "ليتني كنت نسياً منسياً"
يكتشف الأهل حالة "الاختفاء" المفاجئ، فينتشر الخبر وتزداد قهرية الأمر على "الهاربة" وعلى "عائلتها" معاً، لا أحد سيتفهم أن سبب الاختفاء مشكلة بسيطة، فغالباً ما يؤول السبب إلى "فساد جنسي"، فبقدر ما يمكن نشر الخبر والصور عبر وسائل الإعلام والاتصال في العثور على "المختفية" وربما إنقاذها من السقوط في براثن عصابات "الدعارة" عندها تسقط "الهاربة" المستجيرة من نار "العائلة" في جحيم "الدعارة"، بذات القدر يشكل ذلك مشكلة أخرى تسهم في "وصم" المختفية بنعوت مسيئة على غرار "واقعة الإفك" في التراث الإسلامي؛ حيث إن مجرد "تأخر" فتاة عن موعد الدخول إلى البيت يجعلها متهمة بـ"الفساد".
من خلال ما توصلنا إليه، في موقع دادس أنفو، من بعض الحالات وجدنا أن طريقة تعامل الأسر والمجتمع مع اختفاء أحد الأبناء تكون سبباً في تعقيد الأمور، فعوض استحضار آليات الحوار والتفهم والتفاهم والإنصات يتم اعتماد مقاربة التهديد والوعيد والعنف؛ حيث إن سبباً بسيطاً قد يجعل فتاة "تتغيب" عن منزلها الأسري، وسوء التعامل والتقدير يجعل فكرة العودة والرجوع صعبة على الفتاة مخافة العقاب، فتجد نفسها بعد ذلك ضحية شبكات الاستغلال الجنسي التي تترصد مثل هذه الفرص، فحسب أغلب التصريحات والشهادات التي توصلنا بها، لاحظنا أن السقوط في الانحراف الأخلاقي والفساد يكون نتيجة سوء التعامل مع الفتاة بعد هربها وليس قبله بالضرورة.
خلال بحثنا، وجدنا أنه في حالات قليلة فقط كان اختفاء فتيات من المنطقة بسبب "جنسي"، كحالات اكتشاف تعرض الفتاة لاغتصاب، أو علاقات نتج عنها حمل غير مرغوب فيه، إضافة إلى حالة لفتاة تعرضت للابتزاز بنشر صورها عارية من طرف أحد زملائها في الدراسة، أو حين تتعرض فتيات للاستغلال من أشخاص ذوي سلطة ونفوذ عليها، وتكون ملزمة "اجتماعياً" بـ"السترة" فتهرب إلى مكان لا يعرفها فيها أحد.. لكنها في المجمل حالات محدودة لا يمكن تعميمها.
وحسب دراسات عديدة، تتنوع أسباب "هروب" الفتيات والفتيان من البيوت، بين الحرمان العاطفي والحرمان المادي والعنف المادي والرمزي من طرف الأقارب أو الاستغلال الجنسي والتحرش والقهر أو الظلم والتهميش والتحقيق أو الحمل غير المرغوب فيه، أو التدليل المبالغ فيه، وعدم اهتمام الأسرة وتهاونها، إضافة إلى السقوط ضحايا التغرير وصراع القيم والتفكك الأسري التمييز بين الأبناء وغيرها من الأسباب الكثيرة، فليس السلوك الانحرافي للطفل الذي قد يكون سبب هروب الأبناء.
مستشار اجتماعي: أسرة "الطفل الهارب أو المتغيب" تكون كلها محتاجة للمصاحبة والمتابعة النفسية والاجتماعية وليس الطفل فقط، وهذه بعض طرق حسن إدارة مشكلة هروب الأبناء في حال وقوعه:
وحول السبل الناجعة للتعامل مع مشكلة هروب الأبناء في حال وقوعه، يقول محمد هشامي، الباحث في القضايا الاجتماعية: "مجرد وقوع مشكل مثل هذا، قد يجعل الأسرة تنهار، في حين أن الأمر ليس نهاية العالم ونهاية الحياة، ولا يجب أن يصور على أنه كذلك، بل على كل أب وأم أن يكون قد فكر في أنه يمكن أن يهرب أحد أبنائه لسبب ما، وأول شيء يجب أن تتنبه إليه الأسر هو حسن إدارة اللحظة الأولى لوقوع المشكل و"اختفاء" الابن سواء بنت أو ولد، نعم بالفعل تكون هناك صدمة نفسية قوية لكن على الأسرة أن تحسن التصرف، ولا تظهر الوعيد والعنف للمختفي، بل العكس أن تبين أن الأمر لا يستدعي الهروب وأن لكل مشكل حلاً بالحوار، كما أن البحث عن المتغيب أو المتغيبة يجب أن يكون بوعي، مثلاً الأسرة تبدأ بالبحث لدى الأقارب والأصدقاء دون أن تظهر هلعاً وغضباً، بل أن تتعامل مع الأمر بشكل عادي، كما أنه من المفروض أن تكون الأم والأب على معرفة بأصدقاء أبنائهم ومحلات سكناهم".
ويسترسل هشامي قائلاً: "ما يعتقده الكثيرون أن الفتاة أو الفتى المختفي هو الذي يحتاج إلى متابعة نفسية بعد عودته، لكن في الحقيقة فالأسرة كلها في تلك الحالة تحتاج إلى مصاحبة نفسية واجتماعية للتكيف مع الوضع الجديد، لتتصرف بطريقة تربوية وعلمية مع الطفل أو الشاب المختفي بعد عودته، بعد عودة "المتغيب" يجب استقباله بحب وعطف وحنان ونستقبله مثلاً بـ"لقد اشتقنا لك"، "هل أكلت؟"، "هل تشعر بالجوع؟"، "لقد حزنا لغيابك"، عبارات مثل هذه، لا أن نسأله مباشرة عن أسباب الهرب، وأين كان ومع من وماذا فعل؛ لأنه في تلك المرحلة لا يكون قد استوعب الأمر بعد، ومن الأفضل أن لا يناقش في الموضوع إلا بعد مرور فترة من الوقت".
ناقوس الخطر:
ما يمكن أن نخلص إليه من خلال هذا التحقيق أن القهر والظلم الاجتماعي والأسري الممارس على الكثير من الفتيات بالمنطقة إلى جانب الإغراءات التي تزيد وسائل الإعلام والتواصل الحديثة في كشفها تخلق حالات من الاغتراب عن الواقع وعدم تقبله مما يولد ضغطاً نفسياً واجتماعياً على بعض الشابات يدفعهن "للهروب" إلى عوالم مجهولة ربما قد تكون أقل ألماً، كما أن الارتماء في "الفساد" أو "ممارسة الدعارة" و"التعرض للاغتصاب والاستغلال الجنسي" يكون نتيجة لسوء تدبير التعامل مع "الهروب المؤقت" من البيت الأسري، وليس سبباً له بالضرورة.
كما أن ظاهرة الوصم الاجتماعي السلبي، خاصة في مثل هذه المجتمعات التقليدية، تصعب من الإخبار والتبليغ عن حالات الاختفاء من جهة؛ حيث إن عدم التبليغ المبكر يزيد من فرص "لوبيات" استقطاب الفتيات لعالم "الدعارة" كما أن ظاهرة الوصم تصعب كذلك من إعادة اندماج "الهاربة" في حالة عودتها؛ حيث يبقى "الوصم" لصيقاً بها وبعائلتها في الكثير من الأحيان حتى وإن كان "اختفاؤها" لسبب تافه؛ بل إن العائلة ذاتها تمارس عليها عنفاً رمزياً منذ اللحظة الأولى لعودتها بـ"إجراء اختبار سلامة بكرتها"، وعنفاً دائماً في انتظار "تزويجها" لأحد كي "يسترها".
كما أن المجتمع لا يستثار كثيراً بهروب "الذكور" مثل استثارته لهروب "الإناث"، ولا يتعامل معه بالحساسية ذاتها بالرغم من أن "الذكور" قد يتعرضون أيضاً للاستغلال الجنسي، كما قد يكون سبب هروبهم "جنسياً" أيضاً، وإن كانت دراسات تشير إلى أن الفتيات هن أكثر هروباً من الفتيان عادة لا يهرب "الذكر" حتى وإن اقترف "جرائم أبشع"، لكن "الفتاة" قد تهرب لمجرد أن أسرتها وجدت لديها رسالة غرامية من زميل دراسة.
لهذا فتزايد حالات "الاختفاء" في صفوف الشباب، سواء إناث أو ذكور، يتطلب تضافر جهود الجميع أولاً لفهم مثل هذه الظواهر ثم حسن التعامل معها وقاية وعلاجاً.