بالاستنادِ إلى المفاهيمِ التَرْبَوِية، يشارُ إلى التَّرْبِيَةِ بوصفِها العَمَليَّة الاجْتِماعِيَّة الَّتِي يتم بمقتضاها تَّنْمِيَة الشخصية الإنسانيَّة مِنْ جميعِ جوانبها العقلية وَالنَفْسِيَّة وَالاجْتِماعِيَّة وَالجِسْمية. وَتُعَدُّ المُؤَسَّسَات التَرْبَوِية بمثابةِ الأوساطِ وَالتنظيمات الَّتِي تسعى المُجْتَمَعات إليها؛ لأجلِ اِسْتِغلالها فِي مُهِمّةِ نقلِ ثَّقَافَاتها وَتَطَوَّر حَضاراتها وَتحقيق أهدافَها وَغايَاتها التَرْبَوِية.
لا مغالاةً فِي القولِ إنَّ العراقَ كان لغايةِ ما تأخر مِنْ أعوامِ العقد السَابع مِنْ القرنِ المَاضي، يتصدر لوائح مُنَظَّمة الأُمَم المُتّحِدَة للتَّرْبِيَةِ وَالثَّقَافَة وَالعُلُوم (اليونسكو) فِي بعضِ الأنْشِطَة التَرْبَوِية، وَلاسيَّما مَجَّانيَّة التَّعْلِيمِ وَمحو الأُمِّيَّة. إذ أن العراقَ فِي المدةِ الَّتِي سبقت سنوات الحروب، كان يمتلك بحسب تقارير مُنَظَّمة اليونسكو نظاماً تَّعْلِيمياً يُعَد مِنْ أفضل أنظمة التَّعْلِيمِ فِي المَنْطِقة. وَبعد ما يزيد عَلَى ثلاثةِ عقودٍ مِنْ البديهي أَنْ يكونَ الحديثُ عَنْ ضرورةِ انتهاج الْمَدَارِس فِي بلادِنا طَرَائِق التَّدريس العَصْريّة أمراً غير مستغرب؛ لاعتباراتٍ تتعلق بضرورةِ مواكبة معطيات المرحلَة الحالية القائمة عَلَى التقدمِ التِقني المتسارع، وبخاصة ثورة المَعْلُوماتية، فضلاً عَنْ أَهمِّيَّةِ توافق أساليب التَّرْبِيَة مَعَ حاجاتِ الطلبة المُسْتَقْبَلية، إلا أنَّ واقعَ حال الْمَدَارِسِ فِي العراق يشير إلى خلافِ ذلك بفعلِ جملةٍ مِنْ الأسبابٍ المَوْضُوعِية، وَالَّتِي ترتب عليها ضعف اهتمام إدارة التَّرْبِيَة بمُهِمّةِ تَّنْمِيَة شخصية التلميذ أو الطالب نتيجة الانْكِفاء عَلَى طريقةِ التَلْقين، وَالاستغناء عَنْ مدِّ خطوط التواصل مَعَ متاح مِنْ الأساليبِ التَرْبَوِيةِ الحديثة المتميزة، بالإضافةِ إلى تجاهلِ مُشْكِلات الطالب وَحاجاته وَغياب متابعة الأُسْرة الدورية مَعَ إدارةِ المَدْرَسة، وَالَّتِي مِنْ المفترضِ أَنْ تسعى إلى تطويرِ طرائق التَّعْلِيم تماشياً مَعَ متطلباتِ الحياةِ المعاصرة الَّتِي تقوم عَلَى تعليمِ الطلاب مختلفِ المَهَارَات.
لا مناص مِنْ الاعترافِ بهشاشةِ واقع مَدَارِسنا الَّذِي يعبر مِنْ دُونِ أدنى شك عَنْ تراجعٍ حاد فِي مستوى التَّرْبِيَة وَالتَّعْلِيم؛ جراء تضافر مَجْموعة متشابكة مِنْ العواملِ الذاتية وَالْمَوْضُوعِية، وَالَّتِي أفضت بمجملها إلى احتلالِ تَّرْبِيَة العراق ذيلِ القوائم الخاصَّة بتقويمِ مستوى قِطاع التَّرْبِيَة وَالتَّعْلِيم فِي جميعِ دول العَالَم. وضمن هَذَا السياق، يمكن القول إنَّ المُؤَسَّسَةَ التَرْبَوِية تفتقر إلى أبسطِ مقومات عملها، إذ أنَّ الأبنيةَ المَدْرَسِيَّةُ الحُكُومية أصبحت تشكل أبرز المُشْكِلات الَّتِي ما تَزال تأكل مِنْ جرفِ العملية التَرْبَوِية، ما بين مَدْرَسة طِّينيَّة ليس بوسعِها حماية طلابها حر الصيف وَلا مطر الشتاء أو مَدْرَسة أخرى شملها قرار الإزالة وَجرى تركها منذ سنوات لتتحول فِي نهايةِ المطاف إلى مرأبٍ لوقوفِ لسيارات أو غيرها آيلة للسقوطِ أو بحاجةٍ إلى ترميم، وَليس بالإمكانِ اتخاذ ما يقتضي حيالهما. وَلَمْ يكن أمام إدارات التَّرْبِيَة مِنْ خيارٍ لمعالجةِ هَذِهِ المُشْكِلة سوى اللجوء قسراً إلى نظامِ الدوام المُزْدوِج وَالثلاثي وَرُبَّما الرباعي، مَا أدى إلى ازدحامِ الصفوف فِي جميعِ المراحل الدِرَاسِية بأضعافِ الأعداد المفترضة لكُلِّ صَف، فضلاً عَنْ تقليصِ عدد سَاعَات الدوام وَعَدَد الحصص الدِرَاسِية وَالتسبب بصعوبةِ إكمالِ الْمَدَارِسِ المناهج التَّعْلِيميَة.
لا نبعد عَنْ الصَوَابِ إذا قُلْنَا إنَّ سوء الإدارة لعب دوراً بارزاً ومهماً فِي إخفاقِ إدارة التَّرْبِيَة بتحقيقِ العدالة فِي توزيعِ المعلمين وَالمدرسين عَلَى الْمَدَارِس، ما أفضى إلى افتقارِ الكثيرِ مِنها للكادرِ التَّعْلِيميّ المُتَخَصِّص. وَيضافُ إلى ذلك أَزْمَة الكتب المَدْرَسِيَّةُ الَّتِي ظهرت فِي العام الجاري، لتكشف عَنْ الواقعِ المزري الَّذِي انحدر إليه القِطاع التَرْبويّ فِي أعوامِ لألفيةِ الجديدة.
فِي ظلِ حزمةِ المُشْكِلاتِ الكبيرة الَّتِي تعانيها المُؤَسَّسَة التَرْبَوِية، تعلن وِزَارَة التَّرْبِيَة عَنْ اختيار العراق رَئيساً للمؤتمرِ العاشر لوزراء التَّرْبِيَة وَالتَّعْلِيم العَرب الَّذِي عقد فِي الأردن للمدةِ مِنْ (10 – 11) كانون الأول الحالي. والْمُلْفِتُ أَنَّ بيانَ الوِزَارَة آنفاً أشار إلى أنَّ (مشاركة الوفد العراقي تميزت بالفاعلية وحظيت بالاهتمام المطلوب، والذي تكلل باختياره رئيسا للمؤتمر ممثلا بمدير عام العلاقات الثقافية).
هل مخازنَ الكتب الخاوية العائدة لوِزَارَة التَّرْبِيَة العراقية، وَالَّتِي فرضتْ عَلَى أولياءِ أمور التلاميذ شراء كتب المناهج الدِرَاسِية مِنْ السوقِ السوداء، فضلاً عَنْ دورِ العَمَل التَطَوَّعي بطبعِ الكتب المَدْرَسِيَّةُ وَتوزيعها عَلَى الْمَدَارِسِ، تعكس (تميز مشاركة الوفد العراقي بالفاعلية وحظيها بالاهتمام المطلوب) بحسبِ مضمونِ بيانِ وِزَارَة التَّرْبِيَة؟!.
ما قيمة ا لمُشارَكة فِي مؤتمرٍ أمام ما بلغه واقع هَذَا القِطاع اِلاستراتيجي وَالحَيوي مِنْ تراجعٍ وَنكوصٍ تمثل بافتقارِه لأبسطِ مقوماتِ عمله، وَالَّتِي مِنْ شأنِها تهديد مستقبل الأجيال القادمَة، وَهل هي مجاملة اختيار العراق رئيساً للمؤتمر، أم إعجاباً بتجربةِ الدور الثالث أو تكفل المَساجِد وَالحُسَيْنِيَّات وَالأهالي فِي بلادِنا طِباعة الكتب وَتوزيعها عَلَى طَلبَةِ الْمَدَارِسِ؟!.
فِي أمَانِ الله.