الارشيف / عالم المرأة / أخبار المرأة

على الرصيف المقابل..

  • 1/2
  • 2/2

القاص والكاتب: عبد الجبار الحمدي - العراق - خاص بـ " وكالة أخبار المرأة "

قلتُ لكِ سأرحل.. لكنني سأعود، كانت تلك هي كذبتي الوحيد عليك، قلت سأعود غير أني لم احدد متى، فكانت بالنسبة لك بصيص أمل، عبرت الشارع مسرعا، تركتك على الرصيف المقابل من الشارع، تخطيت آملا رفقة الموت فجأة .. لكن، أنتِ لم يسعك الاجتياز لكثرة السيارات التي كانت تلتهم الشارع بسرعة جنونية، بقيتِ في حيرة من أمركِ حتى قَبلتي رحيلي أمرا واقعا بعذاب، لم أعي نفسي وانا اجد بالسير محفزا نفسي عن لا ألتفت الى الوراء لأرى عينيك الدامعتين لرحيلي، لكن شيء ما!! أدارني لأجدك لا زلت تلوحين لي بيدك التي قَبلتَها في كثير من المرات وأنا أرمي بكل عيوبي وأخطائي طالبا منك المغفرة، كنت متهورا، بل وحقيرا حين اقنعتك بأني سارحل، لكني لابد سأعود، بَيَتُ لك الرحيل عنك الى الابد دون علمك بحقيقة ما ابطن من نية سوداء لاشك، كسواد الزقاق المؤدي الى خمارة بيلي التي كان ما أن يراني قد شربت حد التقيؤ والسقوط، يهاتفك لكي تأتي وتحمليني الى البيت الذي شاركتني فيه سنوات خلت، حينها كنت اخجل من نفسي وأنا استيقظ في الصباح لأجدك منهمكة في توفير الجو الملائم لمزاجي المتعكر دوما، عديدة هي المرات التي أثرت حنقك وغيضك حتى اوصلك الى لحظة الغضب وتنفعلي وتقرري الابتعاد عني او حتى طردي، لكنك كنت كالإسفنجة تمتصين كل افعالي ومحاولاتي، ثم تعصرينها خارج نفسك، مشرقة أنت وشعرك الذهبي كالشمس، كم احبك لورا لو تعلمين، غير اني ادرك تماما أنك تستحقين رجل افضل مني، يتحمل الإلتزام والمسؤولية، يكون معطاء كما هي انت، جنون يدفع بي الى جنون اكبر، لذا وجدت الحل الوحيد الذي يمكنني ان ارد لك جميل ما قدمتيه لي من عطاء وحب و ود، بأن ابتعد عنك حتى لا اشوه الجمال والدفء والحب في داخلك، إن عطاءك لا يمكن لأي مخلوق يحمله إنك اشبه بملاك، بل انت كذلك، اعذريني عن قبحي هذا..
لوحت لك أنا الاخر دون أن امسك يدي عن حركتها اللاإرادية، شتمت نفسي بأسوأ الشتائم، لعنت الخمر وسيرة أيامي التي لم تُحدث أي تغيير في ركبها وقافلة العمر الذي سار مبتعدا عن العيش بطمأنينة معك..
كانت أيام عجاف صعبة عليَ في بداية الأمر وأنا اعيش عمري، أعاقر زجاجة الخمر ليل نهار، وهذا ما استغربته صاحبة الحانة السيدة ماك التي رأفت بحالي بعد سماعها قصتي، فمنحتني عمل يكفي لمنامي في مخزن أدوات تنظيف الحانة، والسماح لي بمعاقرة الخمر كأجر يومي مع بعض الطعام وعلبة سجائر، كانت كافية لي...
مضت السنين مسرعة لم اعدها، حتى دار حوار في ساعة ما من مساء جميل، كنت قد رأيت مثله والقمرفي غير حاله مع لورا كما هو الآن مع وجود السيدة ماك وهي ترقبني، القمر قد بدا مشعا مضيئا كوجه لورا، اما خيوطه التي يلقيها نحو النجوم مع النسيم البارد لاشك هي  شذرات شعر لورا..
السيدة ماك: أما آن لك ان تعي كم انت بحاجة إليها؟ أراك تفتقدها في كل وقت، هذا ما يكشف عنه أنينك بعد ان تثمل وتنادي عليها بأسمها.. لورا أهذا هو أسمها؟
جاك: كأنك كنت تراقبيني؟!! وهو يهز رأسه... أجل هو ذاك اسمها، إنها ملاكي وحارسة عمري، غير أني لا أستحقها صدقيني، لقد حاولت عن اقلاع معاقرة الخمر، لكني فشلت مرات عدة، وهي حاولت أن تساعدني لولا شيطان نفسي يدفعني الى العودة كأنه يروم الانتقام من أحد من خلالي..
السيدة ماك: ألهذا السبب رحلت عنها؟
جاك: اجل فقد وجدتني اتصرف بعنف وجنون مع كل من يحدثني بغير ما اشتهي او ارغب، فخفت عليها بأني قد اقوم بفعلة لا تكون محمودة العاقبة على لورا، تلك التي وهبتني حياتها وحبها بلا حدود، كيف يمكن لرجل مثلي قارع الخمر على طاولات حانات، وكسر اغلبها برجولة مخمورة بان يكون رجلا شريفا فارسا يفي بوعده، فأنا طوال معرفتي بها والعيش معها لم أفي بأي وعد قطعته لها، ومع ذلك تغفر لي، ثم تقول: لنحاول من جديد، إن ما يحمله قلبك من طيبة لا يشعر بها سوى من يعرفك عن قرب ويعاشرك، أنت عكس كل ما تقوم به، إن النزعة بداخلك ما هي إلا فعل شياطين الخمر الذين تجالسهم وتعاقرها، سيأتي الوقت المناسب لتكون رجلي الذي أحب وفارس احلامي..
يا لجنونها!! أقولها لنفسي ما أن اخلو مع زجاجة الخمر، كيف لها ان تعرف ما بداخلي؟ إذا كنت أنا نفسي لا ادري ما الذي بداخلي ههههههههههه اضحك وانا امتص الخمر واعبه الى جوفي الذي لا ينفك صراخ وجع حرارته إلا بزيادة اللهيب، فتستعر نفسي كأنها تعيش الجحيم فتلوذ الى الهجوع مع بقية زبانية الشياطين مثلي..
السيدة ماك: ياه!!! اراك يا جاك رغم كل تصرفاتك وجنونك تحبها حبا جما، لا يمكنك ابدا مهما فعلت نسيانها، أرى انك حتى وإن حاولت قتل نفسك بما تفعله، لا يمكنك ذلك، فهناك كما قالت فتاتك لورا مسحة من أصلاح، انصحك بأن تعود إليها لتعيش ما بقي لك من عمر معها، أقول لك هذا لكي تعلم بأن الدنيا متقلبة، ايامها قاسية، فنادرا ما يجد الإنسان فيها شخصا يحبه بنقاء سريرة وحب حقيقي، و مما سمعت منك بأن فتاتك لورا قد ضحت من أجلك بالكثير، غير أنك لم تثمر معها فأنت الخاسر اولا واخيرا، ارجو إن فكرت بالعودة واللحاق على ما تبقى لك في داخلها ستكون اسعد الرجال، فلا تجعل معاقرة الخمر ندا لك معها، إن الحياة في حضن من تحب لهي حياة إنسانية بمعنى الكلمة، اما ان حضنت زجاجة الخمر، لاشك ان تحتض مارقة من الشيطان، جل همها جعلك عبدا كسيرا شاذا عن بيئتك، اقول لك ذلك كوني اشعر بما في قلبها نحوك من خلال ما سردت علي، ارجوك جاك عد إليها قبل فوات الآوان..
سرح جاك مع نفسه طويلا تلك اللية بعد ان غادرت السيدة ماك تاركة إياه مع زجاجة الخمر، حتى حين عادت في اليوم التالي لإفتتاح الخمارة، فوجدت جاك جهز قد نفسه للرحيل والعودة الى لورا.. سعدت بحالتي التي رأت، لقد كنت واعيا مدركا لما أفعل، كأن لورا بالامس قد غسلت بقاياي الملوثة من الخمر بشعاع ضيائها، فقالت:
السيدة ماك: لاشك ان لورا بالامس كانت تدعو الرب لعودتك إليها، يا إلهي!! لقد اصبحت جاك غير الذي اعرف او أراه في كل ليلة، هاك خذ هذا المال ليكون وسيلة وصولك إليها بسرعة، لابد أنها تشعر بقدومك، هيا اسرع يا جاك اسرع.. اني ادعو لك الرب بان تحيا معها حياة سعيدة طويلة جدا، الى اللقاء حاول ان تطلعني على احوالك حال استقرارك لا تنسى .. خرج مسرعا جاك وهو يلوح بيده دون أن يلتفت إليها وهي تودعه.
ركب القطار وهو يجد بالسير معه كأنه يحفزه لأن يجري بدل السير، ستفرح لورا حين تراني فجأة امامها، لاشك انها ستطير من الفرح، لكن لا لن افعل ذلك بل سأهاتفها واطلب منها ان تلقاني في نفس المكان الذي ودعتها فيه، وهي على الجانب الآخر من على رصيف المقابل للشارع، وبنفس جنون الهرب عنها حين عبرت الشارع، سأعبره ولكن هذه المرة بجنون وشغف العودة إليها والحياة معها.. سأكتم عنها فعلي هذا، فقط ادعوها لتكون في نفس المكان لا أكثر..
نزل من القطار مسرعا الى كابينة الهاتف.. الجانب الآخر من الهاتف
لورا: هلو.. من المتحدث.. هلو
خرس لسان جاك كليا، كأنه ابتلعه، لم يستطع اخراج المفرادت حين سمع صوتها، بدا غير الذي يعرفه، فهذا الصوت ضعيف جدا، اغلق سماعة الهاتف وعاود الاتصال..
جاك: عذرا هل هذه لورا التي اتحدث معها؟ إني ادعى جاك صديقها هل لي بمحادثتها رجاء؟
لورا: صمت طويل من جانبها، جعلت جاك يصيح هلو.. هلو مرات عديدة، فقط لتسمع صوته وهو يقول:
هل لورا موجودة رجاء اريد التحدث معها إن أمكن إني جاك صديقها..
فأجابته إني انا لورا يا جاك، كم انت قاسي القلب؟! كل هذه المدة تحياها دون ان تحاول ان تهاتفني، مجنونة حين صدقتك تقول بأنك ستعود، آه كم قاسيت العذاب والوحدة الموحشة دونك، اخبرني كيف هو حالك؟ اين انت حتى استطيع ان آتي إليك؟ أرجوك لا تغلق سماعة الهاتف قبل ان تقول لي كل شيء حبيبي جاك اتوسل إليك
جاك: لورا حبيبتي.. بل أنا الذي يتوسل إليك ويطلب المغفرة منك، لقد آلمتك وجرحتك كثيرا أرجوك سامحيني، لورا أني احبك كثيرا وانا في طريقي إليك الآن سأرك في نفس المكان الذي فارقتك فيه أتاتين ام لا؟
لورا: لا زلت مجنونا ولا تعرف ما الذي تعنيه لي، إنك الرمق الذي احيا به والعالم الذي انضوي بداخله بأمان رغم كل افعالك، سآتيك حالا فقط مسافة الطريق..
خرجت مسرعة رغم مرضها وهزالة جسمها، كان جاك قد سبقها للوقوف على الجانب الآخر من الرصيف، لم يتعرف عليها في اول وهلة وهي تقف على رصيف الشارع من الجانب المقابل، لكن ما ان لوحت له حتى بهت وخارت قواه، بالكاد اقدامه حملته عن السقوط على الأرض، أهذه لورا ضوء القمر!!؟ يا لي من مجرم حقير، قتلت الحياة في داخلها فأطفأت ضياء وبريق مشاعرها حتى ذبلت، صرخ بأعلى صوته لورا.. حبيبتي اقسم لك اني احبك بجنون، اعدك بأني لن أرحل بعيدا عنك ابدا ما حييت، ثم جرى متخطيا الشارع دون الاحساس بالسيارات تماما كما فعلها في تلك المرة، لم تستطع لورا الصبر وهي تراه مقبلا نحوها وخوف فقدانه بعد طول انتظار، هرعت هي الأخرى إليه بما يستطيع وهنها فعله، لكن الشياطين التي عاقرها لم ترد له ان يعيش مع من يحب، رمتها بسهام الموت فتلقاها وإياها ليكون معها في عالم يخلو من الشياطين الماجنة، في محاولة الدخول الى عالم الملائكة الذي جاءت منه لورا.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى