جاءت بينجي تنأى بنفسها بعيدا عن انغماس اقدامها الصغيرة في بطن الثلج الرخو، الذي ابتلع معالم الشارع، ثم انتفخ متكئاَ على ظهره مانعا المارة من السير عليه، لم يعجزها انتفاخ بطنه وهو يومي بيديه الى افراخه المتساقطة لتغطي معالم شكله حتى تداخلت مع بعضها البعض فتماهت كلها، إلا أن بينجي يبدو أنها تعرف الى أين تذهب بعد أن أضاعت صاحبتها كاترينا وهي تتدافع هاربة تاركة الحصول على رغيف خبز هلعا من ملاحقة بعض صائدي الأطفال هربت عنوة مبتعدة عن بينجي، فبرغم حاجتها وفقرها إلا أنها تعتني ببنجي كلبتها الصغيرة البيضاء كبياض الثلج، هكذا ظنت كاترينا أنها تاهت منها بعد هربها.. غير أن بينجي كان لها رأي آخر، لم تشأ ان تكون عبئا على صاحبتها التي تعلم أنها بالكاد تشبع بطنها الصغيرة، وربما هي تشكل عبئا عليها، خاصة بعد ان فقدت كل اهلها في تلك الحرب التي اكلت الأخضر واليابس ولم تبقي سوى جثث ابتلعتها الارض والثلوج العاصفة، لكنها الآن هي بحاجة الى المساعدة، فاتجهت مسرعة ناحية ابواب الكنيسة التي شمت ذات مرة رائحة دخان الطعام مع كاترينا التي وقفت من بعيد تنتظر يد الرحمة ان تطالها، لكن جسمها الصغير الضعيف وتهافت الناس المعوزة لم يتركوا لها فرصة للوصول، حتى نباح بينجي على من يدفع بكاترينا بعيدا ويأخذ دورها وقوفها، كررت ذلك مرات عدة، لكنها لم تحصل على شيء ابدا، ففي كل مرة تأتي مبكرة تجد هناك من سبقها كأنهم جذوع شجر قد غطاها الثلج ما ان تمس انوفهم رائحة الحساء حتى يهرعوا قتالا على الحصول عليه، غالبا ما تسمع الاب القس يصرخ فيهم.. لا تتصارعوا، لا تتدافعوا، فالقليل من الحساء الساخن يمكنه ان يدفئكم ويسد رمق جوعكم، اعذرونا.. فإننا نشكو قلة الطعام ايضا، إن ما نوزعه هو من حصة طعامنا الخاصة بنا، ارجو ان يتيح من اكل بالامس الفرصة لغيره اليوم، فأنا قد حفظت الوجوة التي اعتنقت باب الكنسية كمساميرها التي لم تتغير منذ عشرات السنين، فمنكم من هو قادر على يصبر على الجوع ليلة باردة واحدة ويتمسك بقطعة الخبر لتكون دعامة جوعه دون حساء ساخن، في أثناء ذلك شاهد القس الكلب وهو ينبح قافزا بين كل هذا التجمهر إلا أنه لم يرى الفتاة الصغيرة الى جانبه.. بعدها عاد يحاول برفق رص الصف الطويل بقدر ما يستطيع أن يُدخِل منهم لتناول الحساء قائلا:
إن الرب يختبرنا في محنتنا هاته، فإذا كنا نتقاتل فيما بيننا من اجل سد رمق فكيف لنا ان نعيش بسلام وطمأنينة؟ حيث يجب أن يعتني الواحد منا بالآخر، أخيه الإنسان المشرد والمتضرر مثله، فالمصيبة يا ابنائي شملت الجميع..
نبحت بينجي كأنها فهمت ما قاله، تعلم جيدا بينجي في حواسها الحيوانية أن كاترينا هي التي تعرف بأنها المتضررة الأكثر بين كل هؤلاء، فهي طفلة فقدت جميع أهلها وتركت لذئاب الثلج وباعة الاجساد وتجار الحروب، ولولا عناية الرب لها لما كانت تتنفس هذا العذاب، لكنها مشيئة الرب فقد بات حالها كبينجي حيوان آدمي يعتاش على بقايا فُتات ديدان من جيف مغطاة بالثلج، اقترب القس من الكلبة بينجي وهو يقول:
تعالي أيتها المسكينة، اعلم جيدا أن البرد قد نال منك، فأنت روح أيضا و وجب العناية بك، فالرحمة تشمل الجميع.. غير أن بينجي ابتعدت عنه وهي تهز ذيلها له بقوة، وما ان يتركها قليلا حتى تقترب منه نابحة عليه، هكذا استمرت محاولات بينجي مع القس حتى قال له احد الواقفين.. يبدو أنها ايها الاب تريد منك ان تلحق بها الى مكان ما، إنها جميلة جدا وأظن من يمسك بها سيصنع منها طعاما لذيذا وحساء شهيا لايام.. لكن أليس لها صاحب يرعاها متسائلا بخبث وقد انزلق عن الطابور الطويل؟؟
استوقفت هذه الكلمات وحركة المتحدث القس عن الحركة والحديث، فأشار له بأن يقف في مكانه مستدعيا احد المساعدين بتنظيم الأمر حتى يعود، فقد عزم على متابعة هذه الكلبة، ربما صاحبتها واقعة في مشكلة، فهو يعلم بأن فتاة صغيرة كانت تحملها وهي تحاول الوقوف مع الطابور، لكنه لم يظن انها لوحدها مع هذه الكلبة بل هي مع احد من ذويها..
جرت بينجي لاهثة وهي تحمل ضجيج نباحها الضعيف إشارة تنبيه صوب كاترينا والقس، غير ان حجمها كان يجبرها أن تحاول القفز والجري في عدة اتجاهات، في محاولة الابتعاد عن كرات الثلج التي تترامى بها السماء فيما بينها، غير آبهة على من يسقط سخطها، وهي ترى الغيوم مثقلة بوابل وأكداس ثلج لم ترمه بعد صوب أرض لحس سكانها الحياة ومنوا على الرب بأن يُخَلِفوا وراءهم خراب دائم، غير أن رحمته وعدله أمر السماء وغيومها ان تطفيء نار الحقد بالثلج الكثيف عقابا ورحمة.. هو سيتولى بعنايته الجميع بعد ذلك، صاح القس على بينجي.. توقفي قليلا حتى استطيع أن استرد انفاسي، إن تساقط الثلج وهذه الاكداس المتكومة غير معلوم ما يَخفى تحتها من ألغام او فخاخ، او حتى حفر قد تتهاوى بنا فجأة.. توقفي لحظة
كانت بينجي قد توقفت فعلا، ليس انصاة للقس، بل للتعب الذي اخذ من قدرتها على الحركة والنباح، عادت تسير في نفس الأماكن التي جاءت منها مبتعدة عن ما تشير بها نفسها من خوف حدسها وحاستها بالشم إضافة الى معرفة الاماكن، جاءت بنتيجة إيجابية عدة مرات وهي تنضوي في ستر مكان خرب او تحت اكوام خشب وقاية من وحوش بشرية، سارع القس على خطى بينجي رغم أنها تسبقه، فجأة توقفت واخذت تنبح عليه بشدة، طالبة منه عدم التقدم، لم يلحظ في أول الأمر الخطر المحدق فيه، فقد ظن ان من يبحث عنها موجودة في هذه البقعة، وما ان تفرس في المكان حتى لاحظ أن هناك شبه فراغ اجوف مغطى بالثلج أمامه، لو خطى بخطوة أخرى لكانت نهايته، صاح يا للرب!!! شكرا لك ايتها الكلبة رجع الى الوراء بخطوات ثم استدار الى حافة بقايا جدران متمسكا بها حيث قادته بينجي إليها، شعر بأن هذه الكلبة ذكية جدا و وفية قائلا:
إني اشكرك على انقاذ حياتي وأعدك سأحاول بمشيئة الرب ان انقذ صاحبتك حتى لو تطلب الامر مني يومي كله، سارعت بينجي الى أن اجتازت العقبة التي تعرف، وقفت تنبح وهي تحوم في مكانها، تحفر الثلج في محاولة إزالته لكشف شيء ما، انكب القس دون ان يسأل عما تفعله الكلبة، اخذ يزيل الثلج هو الآخر بيدية التي تجمدت، توقف لِلحظة يفكر بوسيلة وإلا ستتجمد أصابعه، بعدها لا يستطيع ان يقدم المساعدة، برقت عيناه فقام بنزع الصليب من على رقبته كوسيلة أداة لإزالة الثلج، لحظات من حفر هنا وهناك بانت بعده صفحتا خدي كاترينا وقد دفنت تحت ركام الثلج، بسبب خوف وتعب وضعف جسمها، مع قلة حيلتها، سارع القس في إزالة الثلج وهو يصيح أيتها الفتاة لا تموتي، ها هي كلبتك قد جاءت بالنجدة، إني سأعمل على إنقاذك فلا تموتي.. أرجوك، أيها الرب.. اتوسل إليك، احمها وأرفق بها وطفولتها في عالم غطته المآسي وملائكة الموت، شعرت كاترينا بالحرارة والدفء ينسل الى جسمها النحيل، فتحت عيناها وإذا بالقس وبعض من مساعديه وشخوص اخذوا من الكنيسة سكنا يهللون لها شاكرين الرب على انقاذ حياتها، تلفتت تبحث عن كلبتها تلك التي كانت نائمة قرب المدفأة دون ان تشعر بما يدور حولها، حاولت الحديث، لكن القس سبقها قائلا: نعم هي من انقذت حياتك، أما أنا فكنت الوسيلة، إنها إرادة الرب، ثم مد يده بملعقة الحساء نحوها مرددا إن معجزات الرب كثيرة والدلالات على حبه لمنح الحياة عديدة، فلنشكر الرب جميعا وهاهي ... ما اسمك يا فتاة
بصعوبه قالت: كاترينا وهذه كلبتي الحبيبة بينجي
كاترينا خير شاهد أن الخير سيعود والحياة ستستمر ما دام هناك إيمان وحب يجمع بنو البشر والحيوان، بعيدا عن الموت والخراب الذي يفرقهم.