يعيش المجتمع التونسي اليوم تحت وطأة غلاء المعيشة بنسق تصاعدي وسريع الوتيرة، وهو ما أنتج ارتفاعا في أعداد العائلات الفقيرة والمعوزة أمام عجز الدولة عن تحسين الأوضاع الاقتصادية والمعيشية التي باتت تتسم بالتدهور المتواصل منذ سنوات.
وأوضح علماء اجتماع أن هذا الوضع جعل الفقر معضلة الأسر التونسية التي تجد نفسها عاجزة عن تلبية أبسط حاجيات أبنائها، ما يجعل هؤلاء عرضة لاضطرابات نفسية قد تحول دون انسجامهم مع محيطهم وتخلف لديهم آثارا نفسية قد تحوّلهم في المستقبل إلى مراهقين عنيفين، أو شباب منحرف بسبب إحساسه بالدونية مقارنة بأبناء العائلات المتوسطة أو الثرية الذين يعيشون في بيئة اجتماعية طغت عليها المادة والمظاهر.
وكشف تقرير مشترك بين منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) والبنك الدولي حول “الفقر المدقع للأطفال في العالم”، نشرت نتائجه في شهر ديسمبر 2016، أن 25 بالمئة من أطفال تونس فقراء أي أن الفئة العمرية ما بين 1 و18 سنة يعيشون في عائلة فقيرة وهي نسبة أعلى من نسبة المستوى الوطني للفقر التي بلغت 15.05 بالمئة حسب مسح أجري عام 2010.
وقال الخبير في الاقتصاد عبدالرحمان اللاحقة خلال لقاء لتقديم التقرير المشترك للبنك الدولي واليونيسيف حول “الفقر المدقع للأطفال في العالم”، إن هنالك فوارق جهوية كبيرة في نسبة الفقر بما ينعكس حسب رأيه على السياسات والأولويات والخيارات الوطنية في المستقبل، مشيرا إلى أن من أبرز التحديات التي تواجه تونس اليوم ضرورة تعميم حوكمة البرامج الاجتماعية الحالية وتحسينها وإيصالها للعائلات التي تحتاج إلى المساعدة والعمل على ضمان تمتعها بالخدمات الأساسية من تعليم وصحة ونقل وترفيه.. وفي هذا السياق، أوصى اللاحقة بضرورة إرساء حوار وطني لوضع أرضية حماية اجتماعية للأطفال من شأنها أن تساعد على الحد من نسب الفقراء.
ومن جانبها، شددت ممثلة منظمة اليونيسيف بتونس، ليلا بيترس على أهمية الاستثمار في الطفولة باعتبار أنه يحد من المشكلات المستقبلية لهذه الفئة الهامة من المجتمع، مضيفة أنه “استثمار مثمر ومربح وكلما كان مبكرا كانت مردوديته أكبر”. ودعت بيترس إلى توحيد جهود كل الأطراف المتدخلة من وزارات وهياكل حكومية ومجتمع مدني وقطاع خاص، لإنجاح الاستثمار في الأطفال لما له من انعكاسات اجتماعية.
وأكد مختصون أن الأسرة التونسية اليوم أصبحت تعيش تمزقا بين مجتمع يتبع نمط معيشة يقوم على توفير الضروريات والكماليات ويقدس المادة والمظاهر وبين إمكانياتها المحدودة والضعيفة بالنسبة إلى العائلات الفقيرة، مشيرين إلى أن هذا الاختلال في التوازن بين الموجود والمنشود يجعل أرباب الأسر يعانون من العجز أمام مطالب أبنائهم بسبب ضيق الحال. وهو ما يوتر العلاقات بين الطرفين ويخلق خلافات تزداد حدة بتقدم الابن في السن حيث تكبر معه مطالبه ورغباته ليصطدم بجدار الإمكانيات المادية الضعيفة لوالديه.
وأضافوا أن هذه الخلافات الناجمة عن مشاعر الطفل الفقير بالحرمان وبالخصاصة وشعوره بعدم الرضا على وضعه المعيشي ومقارنته لنفسه بغيره من الأطفال المترفين، تخلف اضطرابات نفسية لديه وتنمو في هذه الحالات مشاعر اللوم على والديه قد تتطور لتصبح حقدا ونقمة عليهما وعلى مجتمع يحكم عليه من خلال مظهره وحذائه المتهرئ، أو ملابسه القديمة التي يقصد بها المدرسة أو يخرج بها إلى الشارع.
وتقول نجوى ساسي، وهي معلمة في المرحلة الابتدائية، إنها تلاحظ أن الأطفال الفقراء كثيرا ما يختارون المقاعد الخلفية في الفصل خجلا من مظهرهم ويكونون خجولين في تعاملهم مع معلميهم وزملاءهم، وتشير إلى أن أغلبهم تتكون لديهم شخصية انطوائية فلا تراهم يشاركون زملائهم اللعب في أوقات الفراغ ولا يتقاسمون معهم لمجهم “إن كانت لديهم أصلا”، على حد تعبيرها.
وتضيف ساسي “أنا شخصيا تأثرت عائلتي جراء غلاء المعيشة والفقر فأصغر إخوتي مثلا لم يتقبل الوضع مثلي أنا وباقي إخوتي، وهو اليوم في سن المراهقة وقد انقطع عن الدراسة بسبب شعوره بالنقص وسط زملائه فهو لا يمتلك ألبسة باهظة الثمن ولا يمتلك هاتفا جوالا متطورا ولا كمبيوترا مثل بعضهم، الأمر الذي جعل نتائجه تتراجع تدريجيا بعد أن كان من المتميزين في الدراسة، ثم وبحلول سن المراهقة ازداد الوضع سوءا، وهو اليوم منقطع عن الدراسة وعاطل عن العمل وكثيرا ما يتشاجر مع والده ووالدته لأنهما لا يوفران له مصروفه الشخصي ليمضي يومه متسكعا مع أصحاب السوء ويدخن السجائر مثلهم ويجلس في المقاهي”.
وتابعت قائلة “أصبح والداي يعيشان حالة من الشجار المتواصل معه إلى درجة أن أمي تقول إنها أصبحت تخاف من كل صباح جديد لأنها لا تمتلك المبلغ الذي سيطلبه كمصروف يومي، خاصة وأنه يختلط بمجموعة من المنحرفين جعلت احتكاكه بهم أكثر طلبات وأكثر وقاحة معها ومع والده، فهو كثيرا ما يقلل من احترامهما ويصل إلى إهانتهما ولومهما بقوله ‘طالما أنكما عاجزان عن تلبية رغباتي وعن تأمين حاجياتي فلماذا أنجبتماني؟’، ويهددهما باستمرار بأنه سوف يصبح سارقا حتى يحصل على ما يريد، الأمر الذي يدفعهما إلى التداين لتلبية طلباته خشية وقوعه في الخطأ أو إقدامه على السرقة وتجنبا للفضائح”.
معاناة أسرة نجوى مع الابن الأصغر ليست حالة شاذة في المجتمع التونسي، حيث أثبتت دراسات حديثة أن غالبية العائلات الفقيرة تشتكي من نفس المشكلات مع هذا النوع من الأبناء الذين وصلوا درجة العقوق، إنهم يمثلون فريسة سهلة للآفات والمخاطر الاجتماعية وهم مؤهلون أكثر من غيرهم للانصياع في طريق الانحراف والإدمان والجريمة، لكن هذا لا ينفي أن هناك أبناء يتقبلون الوضع المادي والاجتماعي لأسرهم ويتربون على القناعة بما لديهم فيكونون محصنين من الوقوع في المشكلات النفسية والاجتماعية ويتمكنون بالتالي من تحقيق النجاح في حياتهم.
ويظل السؤال الأكبر المطروح هنا: ماذا أعدت الدولة التونسية لاحتضان النسبة المرتفعة من الأطفال الفقراء وعائلاتهم؟ وما هي السياسات الاجتماعية التي ستتخذها للإحاطة بهم وحمايتهم من تداعيات الفقر عندما يصبحون شباب ورجال المستقبل؟