الحَدَاثةُ منَ المفاهيمِ الواضحةِ وشديدةِ الغموضِ في آنٍ. فنحنُ نفهمُ، مباشرةً، أنَّها تتصلُ بالتَّمَدُنِ والتَّحَضُرِ الاجتماعيينِ، وبتغييرِ أنماطِ التفكيرِ والسلوكِ لتتناسبَ معَ العصرِ، لكننا نقفُ أمام مدلولاتِ ذلك كلِّهِ مُتسائِلينَ عنْ أبعادِها وآلياتِها في مجتمعِنا القطريِّ. فمجتمعُنا مجتمعٌ مسلمٌ محافظٌ، وتتعدَّدُ فيه الركائزُ التي عِمادُها الأخلاقُ والتقاليدُ والأعرافُ، مِـمَّا يجعلُ منْ بَحْثِ معاييرِ الحداثةِ، وتَجَلِّياتِها فيه، أمراً بالغَ الصعوبةِ. ولأنَّ الجانبَ الاجتماعيَّ، في نظري، هو أحدُ المقاييسِ الرئيسةِ التي تعكسُ حداثةَ المجتمعِ، فإنَّني سأتحدثُ عنه وأَسْتَدِلُّ به.
انشغلتُ زمناً بملاحظةِ نموِّ دورِ المرأةِ في مجتمعِنا، وهو نموٌّ ضخمٌ جداً إذا قِيْسَ بالفترةِ الزمنيةِ التي استغرقَها. فخلالَ العشرينَ عاماً المُنصْرِمَةِ، تعاظَمَ وجودُ الدورِ، وتَبَدَّى جَلياً في وجودِ المرأةِ الملحوظِ في العملِ الحكوميِّ الذي كان، في معظمِ مستوياتِهِ، حِكراً على الرجالِ. ولستُ مِمَّنْ يقولونَ بأنَّ دورَ الدولةِ، مُمَثَّلَةً في قيادتِها الحكيمةِ، هي التي لعبتْ الدورَ الأكبرَ في ذلك، ولكنني أؤمنُ بأنَّ التعليمَ، والرفاهَ، والاستقرارَ الاقتصاديَّ والسياسيَّ، وشعورُ الإنسانِ القطريِّ بأنَّهُ قيمةٌ عظمى في وطنِـهِ، جميعُها عواملُ أنتجتْ قُبولاً بالحداثةِ الاجتماعيةِ التي تبدو أهمُّ ملامحِها في خروجِ المرأةِ من بيتِها، وتَغَلُّبِها على التقاليدِ التي عَطَّلَتْ طويلاً دورَها الفاعلَ في مسيرةِ الوطنِ.
ننظرُ إلى نتائجِ هذا الدورِ، فنجدُها رائعةً في مستوياتٍ عِدَّةٍ. ففي المستوى الاقتصادي، لم يكنِ الأمرُ تحقيقَ الاستقلاليةِ الاقتصاديةِ للمرأةِ، حسبَ الـمفهومِ الغربيِّ، وإنما كانَ عنصراً مساعداً في استقلاليةِ الأسرةِ حديثةِ النشوءِ. فالزوجُ والزوجةُ الشابانِ كلاهما يعملُ، وكلاهما يُسْهِمُ في بناءِ الأسرةِ الناشئةِ بعيداً عن تَحَكُّماتِ أسرتيهما التي كانت ترتكزُ في السابقِ على دَعمِهما اقتصادياً لزمنٍ قد يطولُ. و في المستوى الاجتماعيِّ، حققَ نموُّ دورِ المرأةِ تَقَدُّماً في الوعيِ الاجتماعيِّ. فانخفضتْ نسبةُ تأثيراتِ الميولِ الذُّكوريةِ للاستئثارِ بكلِّ الأدوارِ، مما ساعدَ على تَقَلُّصِ نِسَبِ العُنْفِ الأُسَرِيِّ، ونشوءِ فِكْرٍ جديدٍ يؤمنُ أصحابُهُ بالعدالةِ والانضباطِ الاجتماعيينِ في العلاقاتِ الأُسَرِيَّةِ والاجتماعيةِ. وفي المستوى السُّلوكيِّ، أصبحَ الانضباطُ في التعبيرِ والفِعْلِ سائداً، حتى إنَّ القضايا المُرتبطةَ بالجُرْمِ الجنائيِّ، كالتَّعَدِّي الجسديِّ والَّلفظيِّ، أصبحتْ غير موجودةٍ نسبياً، لأنَّ وجودَ المرأةِ في كلِّ مجالاتِ العملِ خَلقَ شعوراً بوجوبِ الاحترامِ للجميعِ.
كلمة أخيرة:
ينبغي علينا، مواطنينَ ومواطناتٍ، أنْ نسعى دائماً لترسيخِ مبادئِ عقيدتِنا الإسلاميةِ السَّمحاء في نفوسِ الناشئةِ والشبابِ، لتظلَّ حداثةُ مجتمعِنا مُسَوَّرَةً بأخلاقٍ رفيعةٍ تُهَذِّبُ النفوسَ، وتُرَسِّخُ الوعيَ بِقَدَرِنا الرائعِ كجزءٍ منْ أمةٍ إسلاميةٍ، وكعضوٍّ حيٍّ في أمتنا العربية.